المدونة

نُشر أول مرة في درج بتاريخ ١٧ اكتوبر ٢٠٢٠

. هذا يوم عيد للرئيس إيمانويل ماكرون وسياسته الجديدة ضد “الانفصاليين” الإسلاميين كما سماهم بنفسه، وهذا يوم عيد لليمين الفرنسي، وللبيض الخائفين والمنزعجين في كل أوروبا من “أسلمة” مزعومة ستعكر صفو نقائهم الثقافي المزعوم بدوره. وهذا يوم عيد للحكومات القمعية الفاسدة في بلدان عربية واسلامية عديدة تقول للغربيين في غرف مغلقة: “هه لا تحبون سياساتنا .. نحن ومن بعدنا طوفان الارهاب الاسلامي والدواعش.” هذا يوم عيد صنعه لهم أحمق لا يزيد عمره في الأغلب عن 18 عاماً قام بقطع رأس مدرس فرنسي قرب مدرسته لأنه كان غاضباً من “إساءة” المدرس للرسول محمد. القاتل، الذي صرخ “الله أكبر” عندما اقترب منه رجال الشرطة وأظهر مسدساً يضرب طلقات بلاستيكية ومات برصاص الشرطة الحقيقي، ولد في موسكو لعائلة مسلمة من الشيشان منحتها فرنسا حق اللجوء هرباً من الاضطهاد الروسي.

التعليقات التي ستحاصرنا في الأيام القليلة القادمة ستنشر مزيداً من الدخان وتمنح مزيداً من الرصاص والسيوف للحمقى على الجانبين، وستهمش اكثر فأكثر أي حوار عاقل حول ظاهرة مهمة لا يتعين ابداً التقليل منها ومن خطرها كما يذهب البعض

هذا المجرم المأفون الذي يحتفل به بعض الحمقى على ساحات الوغى في السوشيال ميديا قام بقطع رأس مدرس محبوب بين طلابه وفي مدرسته بعد ساعات من حصة عن حرية الرأي والتعبير. كانت جريمة المدرس وعمره 47 عاماً أنه في إطار هذه الحصة عرض صوراً كاريكاتورية للرسول كانت قد نشرتها جريدة شارلي إيبدو الساخرة منذ نحو خمس سنوات. المدرس قال لطلابه المسلمين أن من حقهم عدم حضور الحصة لو كانت تلك الرسوم التي سيعرضها في إطار الحصة قد تسيئ الى مشاعرهم.

الرسوم نفسها كانت دفعت الأخوين سعيد وشريف كواشي، الذين عانيا من اضطرابات ومشاكل عديدة بلا شك في حياتهما، الى قتل 12 شخصاً في مقرّ الصحيفة بسبب ما اعتقدا أنها إساءات لنبي الإسلام في يناير 2015. 

هناك حوارات ومراجعات للذات وفهم للسياقات يتعين القيام بها كلها من أجل تحليل دقيق ومفيد بشأن أعمال العنف التي يقوم بها جهاديون ومهووسون إسلاميون من مدارس وخلفيات مختلفة، هذه التحليلات المتأنية يمكنها أن تساعد في خلق سياسات عامة رشيدة ورأيٍ عام أكثر استنارة فيما يتعلق بهذه الظواهر.


سنعرف خلال أيام او أسابيع تفاصيل كثيرة عن هذا القاتل الخارج للتو من طفولته، وربما تتشابه بعض مجريات حياته مع حياة الأخوين كواشي الذين مات والديهما 1995 واضطرا للانتقال للعيش مع أسرة بديلة ثم في دار ايتام (الام ماتت وهي تلد الطفل السادس). وكما ركز البعض على ان الاخوين كواشي مسلمان واصلهما من الجزائر، سينسى كثيرون أنهم ولدا وعاشا وتربيا في فرنسا مثلهما مثل قاتلنا الجديد الذي سيركز كثيرون على أصله الإسلامي والشيشاني رغم انه تربى في فرنسا. وسيتحدث كثيرون عن مشكلة في نصوص الدين ذاته.

هناك حوارات ومراجعات للذات وفهم للسياقات يتعين القيام بها كلها من أجل تحليل دقيق ومفيد بشأن أعمال العنف التي يقوم بها جهاديون ومهووسون إسلاميون من مدارس وخلفيات مختلفة، هذه التحليلات المتأنية يمكنها أن تساعد في خلق سياسات عامة رشيدة ورأيٍ عام أكثر استنارة فيما يتعلق بهذه الظواهر.

هبّ ماكرون على الفور وقال ان الحادث كان “هجوماً إرهابياً إسلامياً” وسارع الى المدرسة الواقعة في ضاحية قرب باريس حيث خاطب الصحافة قائلاً ان مدرس التاريخ قُتل بوحشية “لأنه كان يعلم حرية التعبير وحرية العقيدة”. ويسعى ماكرون لاستصدار تشريعات جديدة ضدّ ما وصفه بـ الانفصالية يركز فيها على المتطرفين الإسلاميين الذين يتهمهم بانهم يغسلون أدمغة الشباب والطلاب في مساجد ومدارس أهلية عن طريق عظات وانشطة متنوعة. ويقيم في فرنسا أكبر جالية مسلمة في غرب أوروبا يصل تعدادها الى خمسة ملايين شخص. 

وسيدلي سياسيون من اليمين الفرنسي المتطرف بتصريحات أشد وأعنف.

لن تجدينا تحليلات عاقلة مثل تلك التي يكتبها الأستاذ الجامعي اوليفييه روا صاحب الكتب المتعددة عن الإسلاميين. روا يرى أن خطط ماكرون لمواجهة تمدد التشدد بين فئات معينة من مسلمي فرنسا تخلط أشياء مختلفة تماماً وتضع السلفيين والجهاديين والإخوان المسلمين والمحجبات والمنتقبات وحتى تجار المخدرات وعصابات من شباب الأحياء الفقيرة في شبكة واحدة مزعومة، يسعى أعضاؤها لفرض شريعتهم والانفصال عن الدولة الفرنسية. وقال روا إن ما يسعى له ماكرون ومن يؤيدونه هو “طرد المتدينين بشكل تام من الفضاء العام، وهو ما يتنافى مع قانون عام 1905 (الذي يفصل بين الدين والدولة) ويحدد إطار ممارسة العبادة في الأماكن العامة.” هذه تحليلات اكاديمية رصينة ومفيدة ومن يواصل قراءة روا سيتعرف أكثر على دوافع ماكرون وإشكاليات المسلمين والإسلاميين والجهاديين وغيرهم بشكل أكثر دقة وتعقيداً في فرنسا وغرب أوروبا.

السياسيون والمؤثرون على صفحات السوشيال ميديا لا يملكون الوقت للقراءة ولا صفاء الذهن لفهم تحليلات معقدة ولن تزيد احصائيات الترافيك او تبرعات مؤيديهم بسبب عمق تحليلاتهم. لا يقرأ كثيرون الصحف ناهيك عن الكتب قبل التصويت في الانتخابات أو اتخاذ قرارات مهمة ولو فعلوا فقد باتوا يتابعون من يشبهونهم في التفكير والتحليل. 

وعبر المتوسط ستخرج علينا أصوات مملة بمحفوظات مكررة تعلن لنا الفارق بين الإسلام الحقيقي والإرهابيين، وأن هؤلاء القتلة لا يمثلون الإسلام. وسيذكّرنا آخرون أن ضحايا العنف الإسلامي المسلح رغم مشهديته الفظيعة في عمليات الذبح من شواطئ ليبيا حتى ميادين الرقة، اقل من ضحايا الغارات الامريكية في العراق وأفغانستان وبراميل الديكتاتور المجنون التي حرقت مئات الالاف من شعبه في انحاء سوريا. بل وسيعود البعض الى التاريخ الاستعماري الطويل البغيض. كثير من البيانات والأرقام الصحيحة ستنهال على رأسنا من أجل خدمة حجج باطلة. وستصدر مؤسسات ومعاهد ودور إفتاء بيانات عن دور الإسلام الوسطي في إقرار السلام. 

وسيفرك مسؤولون في أجهزة أمنية عربية وإسلامية أيديهم ويدقون على شاشات هواتفهم برسائل واتساب لنظرائهم في باريس وأوروبا يقدمون لهم التعازي ويقترحون عليهم تعاوناً مشتركاً لمكافحة الإرهاب. 

وستنهال علينا تعليقات فرحة ومتشفية من مسلمين يعيشون حالة مستمرة من الدفاع عن حقّ غير مفهوم الحدود في إيقاع عقوبات صارمة أو قتل كل من يعتقدون أنه أدلى برأي مسيئ للاسلام. بعض هؤلاء عادة يحملون شحنات كبيرة من الغضب واعصاباً عارية تلسعها أي إهانة بسبب تاريخ طويل من الذلّ والاهانة الفعلية او المتخيلة في بلادهم أو في بلاد المهجر. وبعضهم مهووسون من اتباع اشخاص مثل السيد أيمن الظواهري في كهوف أفغانستان مثلا ومن والاه من السعودية الى المغرب. وبعضهم يعتقدون اننا في غمار حملة صليبية جديدة يجب الحشد لها والوقوف ضدها. ولن نعدم عدداً من الناس يقولون ان القاتل جزء من مؤامرة للاساءة الى الاسلام. وسينتشر اتباع “لكن” في الفضاء الافتراضي وهم من يقولون لك “جريمة نكراء حقا ولكن شارلي ايبدو ارتكبت فعلاً أشدّ جرما” أو “جريمة نكراء حقاً ولكن لماذا يكرهون الاسلام …” و “ولكن لماذا لا يجرمون العداء للإسلام كما يجرمون  إنكار المحرقة النازية ….” 

هناك حوارات ومراجعات للذات وفهم للسياقات يتعين القيام بها كلها من أجل تحليل دقيق ومفيد بشأن أعمال العنف التي يقوم بها جهاديون ومهووسون إسلاميون من مدارس وخلفيات مختلفة، هذه التحليلات المتأنية يمكنها أن تساعد في خلق سياسات عامة رشيدة ورأيٍ عام أكثر استنارة فيما يتعلق بهذه الظواهر. لكن التعليقات التي ستحاصرنا في الأيام القليلة القادمة ستنشر مزيداً من الدخان وتمنح مزيداً من الرصاص والسيوف للحمقى على الجانبين، وستهمش اكثر فأكثر أي حوار عاقل حول ظاهرة مهمة لا يتعين ابداً التقليل منها ومن خطرها كما يذهب البعض. 

ولكن من لديه وقت لحوار عاقل ومن يهتم أصلا بهكذا حوار!  السياسيون والمؤثرون على صفحات السوشيال ميديا لا يملكون الوقت للقراءة ولا صفاء الذهن لفهم تحليلات معقدة ولن تزيد احصائيات الترافيك او تبرعات مؤيديهم بسبب عمق تحليلاتهم. لا يقرأ كثيرون الصحف ناهيك عن الكتب قبل التصويت في الانتخابات أو اتخاذ قرارات مهمة ولو فعلوا فقد باتوا يتابعون من يشبهونهم في التفكير والتحليل. 

فهل لم يعد هناك من حل أمامنا سوى ان نروض أنفسنا على سنين طويلة قادمة من هذا الهراء الدموي؟ للأسف يبدو الأمر كذلك. اربطوا الاحزمة للمرة الالف إذن.

كاتب، صحفي، مصري، بتاع حقوق انسان، وموظف اممي سابق، ومستشار في الاعلام والتجهيل والحفر والتنزيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *