تقدم تلك المقالة قراءة في نتائج المسح الذي قام به مشروع «حوار المتوسط»، وهو برنامج ممول من الاتحاد الأوروبي بهدف دعم مؤسسات المجتمع المدني في منطقة البحر المتوسط. ونُشرت للمرة الأولى في موقع إضاءات في 2 أكتوبر 2021
ازدهر عمل منظمات المجتمع المدني في جنوب المتوسط في مطلع العام 2000، وبلغ ذروته في المعترك السياسي الاجتماعي مطلع العام 2010 بعدما اضطلع بدور أساسي في الثورات التي دوى صداها عبر المنطقة. وفيما بلغت التظاهرات الاجتماعية ذروتها عام 2011، قامت منظمات المجتمع المدني بتعبئة الحشود وساعدت على التعبير عن مطالبها والمدافعة عنها وبالنيابة عنها، وقدمت الخبراء والسياسيين والمنظمين.
وبعد بضع سنوات، وفي نهاية العقد نفسه، وعلى الرغم من اندلاع موجة جديدة من التظاهرات عام 2019، ظهر صدع تكتوني كبير وانقلب في وجه موجات متعاقبة تمثلت بضربات من القمع وحروب أهلية مدوَّلة. فبدلًا من الكرامة والحرية التي طالب بها المتظاهرون، وقعت المدن العربية في أحلك الظروف أسيرة نزاعات داخلية أو عودة إلى خانة الصفر، وتعرضت في أفضل الظروف لقمع وحكم طاغوت أجهزة الأمن. وباتت السيطرة بيد سلطات بوليسية نيوليبرالية في دول مثل البحرين والجزائر والمغرب، في حين وقعت شبكات من النخبة تربطها مصالح اجتماعية اقتصادية، وهي مرتهنة للدعم الخارجي، في حروب أهلية في سوريا وليبيا واليمن. لبنان ينفجر داخليًّا، في حين يعيش كل من العراق والسودان وتونس مرحلة انتقالية متقلبة.
في خلال السنوات التي تلت الموجة الأولى من التظاهرات الاجتماعية، «سعت الأنظمة الحاكمة إلى قمع منظمات المجتمع المدني والحيلولة دون عملها على تطبيق برامجها ومتابعة عملها من خلال سن قوانين اعتباطية، ومنع الوصول إلى مصادر التمويل، وفرض تدابير مكافحة للإرهاب وللتظاهر من أجل استهداف مجموعات حقوق الإنسان التي فرضت عليها قيود منع سفر وتجميد للأصول وملاحقة قانونية» (Carlini & Heggi, 2020, p.1).
كما جاء أعلاه، جاءت ضربة الأنظمة في تقييد الفضاء المدني لمعظم منظمات المجتمع المدني قاسيةً وبديهية من خلال الملاحقة القانونية، وخارج الإطار القانوني، وفي ذلك السجن. كانت عمليات القمع قاسية بالنسبة إلى الحركات السياسية، ومنها «حركة 6 أبريل» في مصر ولجان التنسيق في سوريا. وعمد العديد من منظمات المجتمع المدني إلى الهجرة وإغلاق أبوابها أو التلطيف من خطابها ووجوهها العلنية، في حين قرر آخرون العمل عن كثب مع الحكومة والابتعاد عن أي شأن سياسي (مثلًا منظمات المجتمع المدني العاملة بشكل أساسي في مجال المساعدات والخدمات في دول مثل مصر وسوريا).
ممارسة الإحصاء
تشكل ممارسة الإحصاء دورًا أساسيًّا في المسح البحثي الإجمالي، لكونها تسعى إلى دراسة فعاليات المجتمع المدني وتسليط الضوء على ممارستها في الضفة الجنوبية من المتوسط، في مرحلة حساسة محورية من تطورها، وفي ظل تقييم ما إذا كانت النشاطات عابرة للحدود وعبر المتوسط تستطيع مساعدتها على العمل بصورة أكثر فاعلية، وذلك لتحقيق أهداف مشتركة والقيام بمشاريع مناصرة مشتركة والعمل على معالجة التحديات الإقليمية.
بدأت هذه العملية كجزء من برنامج «الحوار المتوسطي للحقوق والمساواة»، والذي يرمي إلى جمع منظمات المجتمع المدني من جميع الدول ذات الصلة حول طاولة الحوار للبحث في حلول لمشاكل مشتركة في المنطقة[1]. يرمي «حوار المتوسط» إلى أن تضطلع المنظمات غير الحكومية بدور في بناء «التنمية المستدامة والتماسك الإقليمي والقدرة على المقاومة، ناهيك عن التأثير في عملية وضع السياسات في الجوار الجنوبي وفي الفضاء الأورومتوسطي»[2].
يعطي الإحصاء صورة عن المساحة الحية للمجتمع المدني بعد الربيع العربي على الرغم من «تدابير الثأر» الموثقة التي قامت بها أنظمة قمعية أعيد تنصيبها، وهي تضيِّق الفضاء المدني في العديد من الدول. ولكن يبدو أن عدد ونطاق عمل منظمات المجتمع المدني إلى تنامٍ على الرغم من التضييق، بصرف النظر عن الحروب التي انهالت على دول عديدة والمرحلة الانتقالية الصعبة التي عاشها العديد من الناشطين الذين اضطروا للتعامل مع قضايا اقتصادية واجتماعية معقدة في دول مثل تونس.
في السنوات الكثيرة التي سبقت العام 2011 جاهدت منظمات المجتمع المدني المتوسطية الجنوبية والشرقية في سبيل إرساء الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهي اضطلعت بدور المدافع والممثل والناشط والعضو في منظمات عبر-وطنية تنقل الضغوط من العواصم الغربية إلى عواصمها. اختلفت الأدوار باختلاف الدول في المنطقة. لم تسعَ عملية الإحصاء بالضرورة إلى شمول منظمات مجتمع مدني تعد الأكثر تأثيرًا من الناحية السياسية والأكثر حضورًا في يالمشهد أواخر العام 2000 مثل جمعيات غير نظامية على غرار نوادي كرة القدم أو الألتراس و«حركة 6 أبريل» في مصر، وشبكات تظاهرة الريف في المغرب ولجان التنسيق في سوريا. ولكن هذه الشبكات الواسعة وغير النظامية والمتراخية عملت بدورها مع منظمات مجتمع مدني أصغر حجمًا و/أو أكثر نظامية تركز بالدرجة الأكبر على المدافعة والمناصرة والبحث عوضًا عن التعبئة والمواجهة. فلقد ركز الإحصاء على هذه المجموعات الأخيرة.
المنهجية
يجب أن يكون لدى أي مسح إطار عمل أولي يحدد النطاق الذي يرغب في أن يشمله الإحصاء. بدأ هذا المسح مع تعريف الاتحاد الأوروبي الأشمل لكيانات المجتمع المدني التي يمكن شمولها في الإحصاء[3].
انطلاقًا من هذه المقاربة ومن المقابلات مع مجيبين أساسيين، خلص البحث المكتبي وعمل أبرز الفعاليات إلى وضع لائحة شاملة بـ3200 منظمة. تم بعد ذلك ترشيح اللائحة انطلاقًا من معايير عديدة للتوصل إلى سجل مقتضب يضم 146 منظمة. تمثل المعيار الأساسي بقيام منظمة أو شبكة بترسيخ الجهود في قضايا متصلة بالنوعية وحقوق الإنسان وباعتماد «نطاق عمل إقليمي و/أو هيكلية عبر-وطنية» (Carlini & Heggi, 2020, p.1). كانت المقاربة الإقليمية واسعة لكونها ضمت «الفضاء الأورومتوسطي والجوار الجنوبي ومناطق المشرق والمغرب» (Carlini & Heggi, p.3)، وبعض المنظمات السورية التي تعمل على معالجة القضايا الوطنية، ولكنها تعمل من مواقع متعددة خارج منطقة الحروب. وعليه، كان يجب أن تكون المنظمات المعنية مشمولة بالمواضيع عبر-الوطنية لا سيما تلك التي تعني ضفتي المتوسط.
تمحورت الدراسة حول منظمات لديها مواقع سياسية محددة تروج لها عن طريق المدافعة السياسية بشأن قضايا مثل «مواجهة حالات انعدام المساواة الاقتصادية والاجتماعية والحيلولة دون راديكالية الشباب و… معالجة التحديات البيئية… وتعزيز الفضاء الديمقراطي وحقوق المواطنة» (p.3). ومن المعايير الأساسية، معايير «الممارسة الجيدة» وهو ما شملته المقابلات مع مجيبين أساسيين من أجل مراعاة نوعية عمل المنظمة.
قام الباحثون، وبالنسبة إلى كل منظمة غير حكومية على اللائحة الطويلة، بتجميع معلومات مثل مقر العمل، وأرقام الاتصال، والمكانة القانونية، والنشاطات الأساسية، ونطاق العمل الجغرافي، والجمهور المستهدف والاستراتيجيات. أجابت على الاستبيان 98 منظمة غير حكومية من أصل 146، شكلت إجاباتها قاعدة التقرير الذي نقوم بتحليله هنا.
نتيجة جائحة كورونا وما فرضته من قيود على السفر، أُرغم الباحثون على إلغاء الزيارات الميدانية مما حرم البحث معلومات غنية كان يمكن أن تفرزها الأسئلة المفتوحة والاجتماعات وجهًا لوجه مع المجيبين (p.14).
الخلاصات الأساسية
جاء معظم الإجابات باللغة الإنكليزية (42) تليها اللغة الفرنسية (29). وهذه الخيارات أساسية بما أن نسبة أقل من النصف أجابت باللغة العربية في حين تعمل النسبة الأكبر في دول ناطقة باللغة العربية.
يمكن أن تؤشر هذه المحصلة مؤشرًا على الخلفية التربوية والثقافية لكبار الموظفين في هذه المنظمات الذين يتحدرون في غالب الأحيان من الطبقة الوسطى العليا أو من مستويات اقتصادية عليا. يطرح هذا الأمر مواضيع متصلة بالتمثيل وثغرات في المعطيات العالمية؛ بل نقص محتمل في التواصل مع المكونات الفعلية[5].
عوضًا عن رصد السياسات أو الدوافع القومية الضيقة، تقود هذه المنظمات قناعة واثقة في الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاقتصادية. ويصح ذلك انطلاقًا من واقع أن نسبة 63% تقريبًا من المجيبين تعمل على إرساء الديمقراطية والحقوق بصورة عامة في حين أن نسبة أكثر من 53% تشمل حالات انعدام المساواة الاقتصادية والاجتماعية على اعتبارها جزءًا من اختصاصاتها (p.9-10).
ترى الغالبية القصوى لهذه المنظمات أو نسبة 84% أن دول المتوسط تتشارك القيم نفسها، وأن هذه القيم يمكن أن تشكل قاعدة تعاون فعال.
ولكن غالبًا ما تنظر الأنظمة الحاكمة في جنوب وشرق المتوسط شزرًا إلى آراء هذه المنظمات بشأن طريقة إرساء الديمقراطية وإقامة مجتمع أكثر عدالة. فعلى دول الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية العمل مع هذه الأنظمة لضمان الاستقرار والأمن في المنطقة في حين ينظر إلى التغيير عبر التحركات في دول المتوسط الأوروبي على أنه تهديد يتعين احتواؤه. ويشكل هذا التوتر بين القيم المشتركة مع منظمات المجتمع المدني من جهة والمصالح المشتركة مع الأنظمة الحاكمة في دول جنوب شرق المتوسط من جهة أخرى معضلة سياسية في نظر الاتحاد الأوروبي.
أبدت هذه المنظمات استعدادًا للعمل مع الاتحاد الأوروبي وحوله كمنظمة، كما مع الدول والأفراد. تستخدم نسبة 80% من المجيبين المدافعة لتحقيق أهدافها (p.10). جدير بالتنويه بأن معظم المنظمات يعمل على أوروبا وعلى الولايات المتحدة على اعتبارهما الحليف الأبرز أو الجهة المانحة للحكومات، ولكونهما يستطيعان بذلك ممارسة الضغوط على العواصم العربية أو المساعدة بطرق تتماشى مع رغبات منظمات المجتمع المدني في تحقيق ممارسات ديمقراطية راسخة وتعزيز حكم القانون والحد من حالات انعدام المساواة الاقتصادية والاجتماعية.
منظمات المجتمع المدني في هذا الإحصاء فتية، حيث تأسست نسبة أكثر من 90% منها بعد العام 1990، وقرابة 64% منها بعد العام 2005. ومعظم المنظمات صغير من حيث الحجم، حيث إن نسبة 64.5% منه يوظف 20 موظفًا أو أقل، و57% يعمل بأقل من 300 ألف يورو في السنة (p.12-13). قد يرغب الاتحاد الأوروبي في تعزيز الآليات الرامية إلى دعم هذه المنظمات الصغيرة والعمل معها – وهي عادة ما لا تكون قادرة على استيفاء الموجبات البيروقراطية الصعبة للاتحاد الأوروبي أو تحمل عبء العمل والمخاطر الكبرى التي يتخللها – من خلال تخصيص مبالغ صغيرة نسبيًّا لعدد كبير من المنظمات متوسطة الحجم.
إذا كان الاتحاد الأوروبي يقدم التمويل لنسبة أكثر من 56% من منظمات المجتمع المدني، وإذا كان البعض منها قد تلقى على الأرجح أموالًا إضافية مباشرة من حكومات ومؤسسات أوروبية، فيجب التنبه إلى حقيقة أن نسبة 28.6% من المنظمات تتلقى الأموال من الدولة أو المصادر المحلية. يجب التشجيع على ذلك بواسطة العمل الثنائي مع الحكومات والقوانين التي تسمح لمنظمات المجتمع المدني بالتقدم لطلب الحصول على أموال من الدولة بصرف النظر عن تسجيلها وطبيعة نشاطها؛ وهذا امتياز يصعب الحصول عليه في دول أفريقيا الجنوبية بالنسبة إلى المنظمات التي تركز على المدافعة. وحقيقة الأمر أن نسبة 24.5% من المجيبين تلقت التمويل من أفراد مقابل نسبة 24.1% من الجهات المانحة من القطاع الخاص، وهذا دليل جيد يجب أن يحظى بالاهتمام من أجل التشجيع على الاستقلالية وترسيخها وتنويع التمويل وكسب المبايعة المحلية. ومع أن معظم منظمات المجتمع المدني في المنطقة ليست منظمات ذات عضوية مفتوحة، فإن نسبة 6.1% من الجهات التي شملتها المقابلة جمعت التمويل من خلال مستحقات العضوية، وهو دليل إيجابي بدوره (p.14).
وعلى الرغم من كون نسبة أكثر من 60% من المجيبين تنشط في المدافعة العابرة للحدود، فإن نسبة الذين يدَّعون أنهم يتمتعون بالقدرة على التأثير في صياغة القوانين ويعتبرون ذلك من بين إنجازاتهم لا تزيد على 34.7%، وهي نسبة أقل بكثير من نسبة الذين يدَّعون أنهم نجحوا في تعبئة صفوف المجتمع المدني وتوعية السياسيين. وقد يكون من المفيد تفكيك هذه الفئات من أجل تفسير ما يشكل تأثيرًا فعليًّا في التشريعات أو ما يعتبر تعبئة ناجحة (p.15).
ولا يزال بعض من أبرز الباحثين يدَّعي أن المنظمات غير الحكومية مرتهنة لدى جهات مانحة غربية تسقط الصفة السياسية عن مواضيع تعتبر بالدرجة الأولى مواضيع سياسية (وهي الحقوق والديمقراطية). ولكن نسبة 70% تقريبًا من الجهات التي شملتها المقابلة قالت إنها كانت خاضعة لضغط خارجي، وإن الحكومة هي مصدر الضغط، في حين أن نسبة 3.9% فقط لفتت إلى محاولة الجهات المانحة قولبة الأجندات والأولويات (p.15).
يرى معظم المنظمات التي أجريت معها مقابلة الحاجةَ إلى بناء المتوسط على أنه مساحة مشتركة متكاملة، فيما تفيد نسبة 62% من المنظمات أنها تريد المشاركة في «رؤيا المتوسط 2030»[6]. وفي هذا الصدد، يبدو العديد من المنظمات مشاركًا في محاولة التأثير في سياسات المتوسط عن طريق المدافعة عن مصالح مشتركة وحكم القانون وحقوق الإنسان وفض النزاعات وبناء السلام ومشاركة الشباب وتدعيم شبكات منظمات المجتمع المدني عبر المنطقة (p.17-18).
وفعليًّا، تتفق نسبة 93% تقريبًا من المجيبين على ما يلي: «يجب على فعاليات المجتمع المدني في المتوسط العمل معًا بطريقة عابرة للحدود من أجل تعزيز الحقوق والمساواة وتوفير تنمية اقتصادية اجتماعية متساوية بين دول المتوسط» (p.19). أما فيما يخص دور برنامج «حوار المتوسط»، إذا كانت نسبة 66% من منظمات المجتمع المدني تفضل من جهة تلقِّي الدعم لبناء القدرات. فمن جهة أخرى، أعربت نسبة الثلثين عن رغبتها في المشاركة في فعاليات إقليمية أشبه بمهرجانات لتعزيز المواطنة الفاعلة في منطقة المتوسط.
تبرهن هذه النتائج اهتمامًا كبيرًا في التزام بنود هذا البرنامج على اعتباره أداة يبنى عليها التزام منظمات المجتمع المدني في مساحة متوسطية متكاملة مشتركة (p.19-20).
يشكل كل من الديمقراطية وحقوق الإنسان والهجرة أبرز المواضيع التي تهم هذه المنظمات. فيما يلي المواضيع التي ركز عليها المجيبون عندما طُلب إليهم اقتراح حملات يجري تنظيمها بدعم من «حوار المتوسط»:
- يشكل الموضوع الأبرز إرساء الديمقراطية، حيث تركز نسبة 37.5% على مشاركة الشباب وتعزيز المؤسسات.
- احتلت الهجرة المرتبة الثانية مع نسبة 34.5%.
- جدير بالتنويه أن نسبة 21% اقترحت حملات لمواجهة حالات انعدام المساواة الاقتصادية والاجتماعية، والتي استوجبت استحداث فرص عمل لائق وتحقيق نمو تشاركي (p.21-22).
خلاصات
إن نجاح منظمات المجتمع المدني أو فشلها في الفضاء المتوسطي اليوم قد يكون رهنًا بقدرتها وبقدرة الجهات الداعمة لها على تنسيق حاجات المواطنين وترتيبها، وبالتالي تمثيلها والترويج لها في المنطقة. تتوزع خلاصات عملية الإحصاء التي قد توفر خطوطًا توجيهية أساسية إلى مجموعتين: تركز الأولى على إحصاء المنظمات بحد ذاته، وعلى سبل تحسين النشاطات المماثلة مستقبلًا، في حين تعتبر الثانية بمثابة فرص جوهرية، وهي تحدد تلك الفرص التي كشفت عنها عملية وضع الخارطة التي باستطاعة جميع الفعاليات اقتناصها.
عملية وضع الخارطة
يجب على الاتحاد الأوروبي التعهد بإجراء مسح معمق أوسع نطاقًا وأكثر عمقًا مع الدروس المستخلصة من هذه العملية البنَّاءة واستثمار مزيد من الموارد وتوظيف فريق عمل أكبر من أجل إجراء مسح كمي ونوعي مستقل للمجتمع المدني في منطقة المتوسط. يجب أن يكون المسح التحليلي المتمخض عن العملية علنيًّا.
اصطدمت عملية الإحصاء بالعديد من التحديات التي يجب مراعاة البعض منها في مرحلة التخطيط المبكر تمهيدًا للدراسة المقبلة. برهن الإحصاء بالدرجة الأولى على أن من الأهمية بمكان بالنسبة إلى «حوار المتوسط»، وربما بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي بصورة عامة، توصيف التزامه مع المجتمع المدني والعمل بصورة أكثر علنية في منطقة تشكك بالفعاليات الخارجية والحوافز التي لا يمكن التدقيق فيها لا سيما في ضوء المواقف العامة والسياسات المتنازع عليها من جانب الحكومات أو المنظمات نفسها.
بالإضافة إلى هذا التحدي الإجمالي، واجه الباحثون عقبة أساسية لكونهم لم يتمكنوا من الاستفادة من المسوحات المرجعية لمنظمات المجتمع المدني في المنطقة لكي يبنوا عليها. تعتبر هذه المعلومات من البحوث الداخلية الخاصة أو التي لا تكون متاحة بسهولة. ثانيًا، نتيجة حملات القمع والفضاء المتقلِّص للعمل المدني في المنطقة والعالم[8]، أبدى العديد من منظمات المجتمع المدني والناشطين اهتمامًا بأمنه وأعرب عن تحفظ متنامٍ بشأن تشارك المعلومات مع الباحثين. ثالثًا، لا يزال معظم ناشطي المجتمع المدني والمنظمات في دول المتوسط الجنوبية والشرقية غير محبِّذ لفكرة المشاركة في نشاطات مشتركة مع منظمات إسرائيلية حتى ولو كانت المسألة لا تتعدى كونها المشاركة في الإحصاء نفسه، فكيف بالمشاركة في حملات مدافعة مشتركة. قليلة هي الاستثناءات التي تذكر في حقل حقوق الإنسان مع المنظمات الإسرائيلية لا سيما تلك التي أسسها فلسطينيون لديهم جنسية إسرائيلية أو التي تضم فلسطينيين من الأراضي المحتلة، ولكن الأخيرة بقيت من باب الاستثناء (P. Carlini و I. Heggi في تصريحات خاصة للكاتب، سبتمبر وأكتوبر 2020 على التوالي).
كان يجب أن يتضمن الإحصاء طيفًا جغرافيًّا واسعًا من المنظمات الأورومتوسطية التي تضم منظمات مجتمع مدني من دول تركيا وبلغاريا، ناهيك عن منظمات من دول شمال المتوسط. نتيجة هذا الحضور الخجول (50 من أصل 146 كيانًا يتحدر من شمال المتوسط، ومن بينهم عشر مؤسسات تابعة للجالية العربية)، تعذَّر على المسح إقامة مجالات تعاون أكثر شمولية، وهي مجالات قد ترغب المنظمات الأورومتوسطية العمل عليها، ناهيك عن مجالات المدافعة التي من شأنها أن تسمح بالمشاركة للمنظمات من كل الأطياف.
الفرص التي يتعين اقتناصها
على الرغم من القمع وتقلب الموارد وغيظ المكونات المحلية والجدران المتشامخة بين الدول وداخلها، لا تزال منظمات المجتمع المدني المتوسطية نشيطة وتضطلع بأدوار حيوية متعددة من تقديم الخدمات إلى المدافعة ومن البحث إلى التعبئة. عوضًا عن السياسات حول الهوية أو الحوافز القومية الضيقة، تقود هذه المنظمات قناعة راسخة في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاقتصادية. أما تحدي العمل مع هذه المنظمات، لا سيما بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، فلا يتمثل في تحديد القيم المشتركة، بل بكون النخب الحاكمة غالبًا ما تنظر شزرًا إلى مقاربة المجتمع المدني حيال طريقة إرساء الديمقراطية وإقامة مجتمعات أكثر إنصافًا؛ هؤلاء هم القادة أنفسهم الذين يضطر الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية إلى العمل معهم لضمان الاستقرار والأمان في المنطقة. يجب على الاتحاد الأوروبي أن ينظر بجدية في سبل دعم هذه المنظمات بواسطة آليات طرف ثالث، وأن يعترف بالشرخ بين القيم والمصالح ويعاين دور التدخلات السياسية المبتكرة في إقامة توازن بين الاثنين فيما يتعلق بدعم مثل هذه المنظمات.
يمارس معظم منظمات المجتمع المدني التي شملها المسح مدافعة دولية، ويركز بالدرجة الأولى على أوروبا والولايات المتحدة باعتبارهما الحليف الأبرز أو الجهة المانحة للحكومات. إن التأثير في السياسات الخارجية لكل من الولايات المتحدة أو أوروبا أو التأثير في مواقفهما له مفعول ارتدادي بنظر هذه المنظمات لكونه يمثل ضغطًا على العواصم العربية بشأن قضايا حقوق الإنسان أو العدالة الاقتصادية. يمثل هذا الأمر فرصة مهمة لجهة العمل مع منظمات المجتمع المدني من خلال تزويدها بوصول أفضل إلى ممرات الاتحاد الأوروبي، وفي ذلك الاجتماعات وجلسات الاستماع مع كبار المسئولين واللجان البرلمانية، ناهيك عن رعاية جهود مدافعة مشتركة أكثر متانة بين منظمات المجتمع المدني من جميع الجهات حول قضايا مشتركة مثل الهجرة وانعدام المساواة الاقتصادية والاجتماعية والآراء الراديكالية.
لا تسعى هذه المنظمات بالدرجة الأولى إلى الحصول على تمويل من الاتحاد الأوروبي، مع أن الأخير ما زال يمثل المصدر الأساسي للدعم. يجب التشجيع على مصادر التمويل المحلية عن طريق العمل الثنائي مع الحكومات، أو القوانين التي تسمح لمنظمات المجتمع المدني التقدم بطلب الحصول على أموال من الدولة بصرف النظر عن الهوية المسجَّلة ونوع النشاط. إن حقيقة أن ثلث المجيبين يتلقون التمويل من أفراد و/أو من جهات مانحة من القطاع الخاص هو دليل جيد تجب دراسته من أجل التشجيع على الاستقلالية وترسيخها وتنويع مصادر التمويل وتحقيق التداول المحلي.
ترى غالبية المنظمات المجيبة أن هناك حاجة إلى بناء المتوسط على أنه مساحة مشتركة متكاملة. وفي هذا الصدد، يبدو العديد من المنظمات ملتزمًا بمحاولات التأثير في السياسات المتوسطية المشتركة من خلال المدافعة عن المصالح المشتركة وحكم القانون وحقوق الإنسان وفض النزاعات وبناء السلام ومشاركة الشباب وتدعيم شبكات منظمات المجتمع المدني عبر المنطقة. يعمل العديد من منظمات المجتمع المدني على التنقل الاقتصادي الاجتماعي أو على تحدي العقبات من أجل تحرير التنقل داخل دول المتوسط وبينها.
تؤمن غالبية المجيبين بالحق في طلب اللجوء والاندماج في الدول المضيفة. كشفت المداولات مع الباحثين الذين أجروا الإحصاء بشأن طريقة تفسير منظمات المجتمع المدني للأسباب الجذرية للهجرة غير النظامية، بأن الظروف الاقتصادية وحالات انعدام المساواة داخل الدول وفيما بينها هي السبب الأساسي. غالبًا ما أثيرت مسألة التنمية الاقتصادية المستدامة لدول الجنوب على أنها السبيل إلى بدء معالجة المشكلة وخفض تدفقات الهجرة.
يشكل كل من الديمقراطية وحقوق الإنسان والهجرة أبرز المواضيع التي تهم المنظمات التي شملها الإحصاء. يفترض أن تكون هذه الأخيرة المجالات السياسية الأساسية في الجهود المشتركة في منطقة المتوسط والتي يجب التركيز والبناء عليها لأن النجاح في هذه المجالات سيسمح بمعالجة مواضيع أخرى لا تقل جدلية مثل الأزمات البيئية والتهديدات الأمنية والراديكالية بصورة أكثر فعالية على المدى البعيد.
[1] وهذا يتضمن عملية التشاور العام الإقليمية التي تضم منظمات المجتمع المدني والمبادرات الإقليمية والكيانات وغيرها من الفعاليات في المنطقة، وذلك بهدف بناء رؤيا حول منطقة المتوسط باعتبارها مساحة مشتركة.
[2] مراجعة موقع meddialogue
[3] تتضمن منظمات المجتمع المدني «جميع الهيكليات غير الحكومية والتي لا تبغي الربح وغير الحزبية والتي يقوم من خلالها الأشخاص بتنظيم صفوفهم من أجل تحقيق أهداف ومثل مشتركة سياسية كانت أم ثقافية أم اجتماعية أم اقتصادية. وحيث تعمل هذه المنظمات من المستوى المحلي إلى الوطني فالإقليمي والدولي، فهي تضم المنظمات الحضرية والريفية، النظامية وغير النظامية» (المفوضية الأوروبية، 2012، ص.3).
[4] تعتبر المقابلات مع مجيبين مقابلات نوعية معممة مع أشخاص يعرفون ما يجري في المجتمع المدني.
[5] تكثر الأدبيات بشأن معضلة الشرعية وتمثيل المنظمات غير الحكومية وجمعيات المجتمع المدني التي تخلو من الأعضاء. للاطلاع على دراسة ميدانية أجريت مؤخرًا: مراجعة عمرو عادلي (2018)، الحركة الحقوقية والسياسة التنازعية في مصر (2004-2014)، مبادرة الإصلاح العربي.
[6] «رؤيا المتوسط 2030» هي رؤيا تحاول مبادرة حوار المتوسط التوصل إليها بواسطة ورش التشاور دون الإقليمي، وهي ترمي إلى بناء تصور حول مستقبل المتوسط.
[7] ترغب نسبة 43.3% في المشاركة في تصميم حملات المدافعة وتطبيقها، وتبدي نسبة 39.2% اهتمامًا في برنامج قادة «قادة حوار المتوسط»، وهي خطة ترمي إلى تمكين القادة الشباب والتواصل معهم على مستوى المنطقة بهدف التشجيع على النشاطات المشتركة البارزة والمبتكرة.
[8] كثيرة هي الأدبيات حول المساحة المدنية المقلصة عالميًّا مع دراسات حالة في العديد من الدول.
See: Carother, T. (2016). Closing Space for International Democracy and Human Rights Support. Journal of Human Rights Practice.
Also see Brechenmacher, S. & Carother, T. (2019). Defending Civic Space: Is the International Community Stuck?
And see also the work of the International Consortium on Closing Civic Space