نُشرت نسخة سابقة من هذه المقالة في صحيفة التحرير التي لم يعد ارشيفها متاحا على الانترنت بتاريخ ٢٢ ديسمبر ٢٠١٣
دعونا نكرر الأسئلة التى أفتتحنا بها هذه السلسلة من المقالات: لماذا تدخلت الولايات المتحدة فى ليبيا عسكريًّا لكنها تقاعست وتراجعت فى سوريا؟ لماذا انتقدت بشار الأسد بقوة فى ٢٠١١ و٢٠١٢ بينما تعاملت بحرص وأناة مع حكومة البحرين رغم استعمال القوة المفرطة ضد المعارضة واستقدام قوات سعودية لفرض السيطرة على البلاد؟ لماذا ترددت واشنطن إزاء مبارك وكانت صبورة للغاية فى ما يتعلق بعلى عبد الله صالح؟ لا شك أن حجم الانتهاكات التى يلجأ إليها أى نظام فى التعامل مع الاحتجاجات يلعب دورا فى تحديد السياسة الأمريكية، فقد كان عدد الضحايا والقسوة فى التعامل فى البحرين طوال الأعوام الثلاثة السابقة على ٢٠١١ أقل مما قد يحدث فى سوريا فى أسبوع واحد الآن، لكن الإجابة الجيدة على هذه الأسئلة تبدأ من بحث مجموعات العوامل الأربعة المختلفة التى تتصارع فيما بينها على تشكيل سياسة خارجية أمريكية وهى المصالح، والقيم، والقدرة على التدخل، والمواقف المتباينة لمؤسسات النظام الأمريكى. ولا يوجد ملخص لإجابات عن هذه الأسئلة، وعلى أى تناول جاد لها فى كل منعطف سياسى فى الشرق الأوسط أن يدرس تأثيرات قضايا النفط وإسرائيل والحرب على الإرهاب والتحول الديمقراطى وحقوق الإنسان، وأن يرى كيف تتقاطع كل هذه القضايا وأن السياسة الخارجية أيضا محكومة بسياق اوسع يتعلق بالدول الكبرى المجاورة (تحديدا إيران وتركيا) وسياسة واشنطن فى ما يتعلق بالصين وآسيا والوضع الاقتصادى الأمريكى.
وقد تحدثنا بما فيه الكفاية عن القدرة على التدخل العسكرى عندما قارنا بين ليبيا وسوريا فى مقالات سابقة مستكشفين حدود القوة العسكرية الأمريكية، وقدرتها على فتح جبهة ثالثة (إضافة إلى أفغانستان والعراق) فى الوقت الذى تقوم فيه بعمليات خاصة فى عدة بلدان أخرى، مثل الصومال واليمن وباكستان. وسأتناول فى هذا المقال الأخير قضايا النفط، وأمن إسرائيل، ومكافحة الإرهاب، ومساعى نشر الديمقراطية، والنظرة الاستشراقية الجديدة للشرق الأوسط على الترتيب. ولنبدأ بالنفط:
لعب النفط دورا مؤثرا فى تطور سياسات واشنطن تجاه دول الربيع العربى، ويمثل إنتاج النفط العربى ٣٢ بالمئة من الإنتاج العالمى، بينما الاحتياطيات العربية ٤٣ بالمئة من الاحتياطيات العالمية، وتنتج السعودية بمفردها نحو ١٠ بالمئة من براميل النفط فى العالم يوميا وتحتكم على ١٦ بالمئة من احتياطى العالم النفطى. والمسألة لا تحسب فقط بضخامة الإنتاج والاحتياطيات، ولكن بالقدرة على رفع وخفض الإنتاج بسهولة، فالسعودية هى الدولة الوحيدة بين منتجى النفط التى يمكنها رفع إنتاجها بحوالى مليونى برميل يوميا ليصل إلى ١٢٫٥ مليون برميل، كما هو حاله هذا العام. ويعنى هذا ببساطة أن الرياض، لو شاءت، يمكنها بأمر ملكى واحد أن ترفع أو تخفض أسعار النفط فى العالم كله، لكن هذا لن يحدث فى الأغلب دون اتفاقات مسبقة مع الولايات المتحدة التى تضمن أمن واستقرار العائلة المالكة. النفط العربى هو أرخص نفط فى العالم كله من ناحية تكاليف التنقيب وتطوير الحقول والإنتاج. وتقدر الوكالة الدولية للطاقة تكلفة الإنتاج الكلية لبرميل النفط فى السعودية والإمارات والكويت بين ثلاثة وخمسة دولارات (فى حين أن سعر برميل النفط حاليا يجاوز مئة دولار). ويبلغ دخل السعودية اليومى من النفط إلى مليار دولار (اذا زاد سعر البرميل عن ٨٠ دولار وكان الانتاج في اعلى مستوياته)، وغير النفط تمتلك الدول العربية مجتمعة ربع احتياطى العالم من الغاز وقطر هى أكبر الدول المنتجة له فى تلك المنطقة.
ولا يجب أن يعمينا بريق كل هذه الثروات الضخمة فى الخليج العربى عن هشاشتها العسكرية الأمنية، فرغم أن هذه الدول تنفق المليارات سنويا على التسليح لصالح شركات غربية فى الأغلب، فإنها معتمدة كلية على المظلة الدفاعية الأمريكية تجاه أى تدخلات خارجية محتملة، فهذه الأسلحة يمكن النظر إليها على أنها الثمن الذى تدفعه دول الخليج للولايات المتحدة وحلفاءها من أجل ضمان الأمن الخليجى عن طريق قواعد عسكرية أمريكية فى قطر والكويت والبحرين، على الأقل، وتسهيلات أو وجود للعسكرية الأمريكية فى السعودية والإمارات وعمان واليمن، وعدد آخر من الدول العربية.
ورغم ازدياد الاكتشافات النفطية فى الولايات المتحدة وكونها الآن أكبر منتج للنفط والغاز فى العالم، فإنها ما زالت تستورد الطاقة لأنها أكبر مستهلك لها فى العام (حرقت أمريكا نحو ٢١ مليون برميل يوميا أو تقريبا ضعف إنتاج السعودية في عام ٢٠١٨). وتستورد الولايات المتحدة من الخليج العربى ١١٪ بالمئة فقط من إجمالى وارداتها النفطية التى وصلت إلى ٣ر٢ مليون برميل يوميا فى عام ٢٠١٨. إلا أن أهمية النفط الخليجى لواشنطن أهمية كونية إذ إن أى انقطاع فى إمداداته سيؤثر بشدة على اقتصاديات العالم وستمتد توابع هذا التأثير للاقتصاد الأمريكى. وعلى سبيل المثال، فإن الصين التى باتت مصالحها الاقتصادية متشابكة للغاية مع الولايات المتحدة صارت فى ديسمبر ٢٠١٣ أكبر مستورد للنفط فى العالم متخطية الولايات المتحدة، وهى تستورد أكثر من اربعين بالمئة من احتياجاتها النفطية أو أكثر من ٥ر٤ مليون برميل يوميًّا من دول الخليج (اجمالي الاستيراد اقترب من ١٠ ملايين برميل يوميا في نهاية ٢٠١٨). ورغم أن الولايات المتحدة تخشى وتقاوم المنافسة التجارية والسياسية الصينية وما زالت تتشكك كثيرا فى نوايا بكين العسكرية وسلوكها التوسعى فى بحر الصين، فإن مصالح البلدين الاقتصادية متداخلة بشكل يجعل واشنطن تتنافس مع بكين، ولكنها لا تريد للتنين الصين أن يعانى من أى هزات ضخمة لأن سقوطه أو حتى توعكه سيؤثر على العالم أجمع.
وأضافة لأهمية النفط للاقتصاد الكونى وأثر ذلك على قرارات واشنطن، فهناك فوائض مالية ضخمة فى منطقة الخليج. ويزيد احتياطى النقد الأجنبى الذى تسيطر عليه السعودية بمفردها عن ٥٠٠ مليار دولار، وهناك مائتي مليار أخرى للكويت وقطر والإمارات مجتمعة، وهى احتياطيات تهم واشنطن كثيرا أن تؤثر على قرارات توظيفها خصوصا أن دول الخليج تنفق مليارات سنويا على شراء السلاح. وبين عامى ٢٠١٣ و ٢٠١٧ أنفقت اشترت دول الخليج العربية نص صادرات الولايات المتحدة من الاسلحة وفي عام ٢٠١٨ فقط اشترت السعودية اسلحة تقارب قيمتها ٧٠ مليار دولار. وتؤثر مليارات الخليج أيضا فى تشكيل مجريات الأمور فى المنطقة بل فى العالم كله كما رأينا فى مساعى الأمير بندر، رئيس جهاز المخابرات السعودى، خلال لقائين مع الرئيس فلاديمير بوتين فى يوليو وديسمبر ٢٠١٣ لتغيير الموقف الروسى من قضايا محددة فى المنطقة فى ما يتعلق بإيران وسوريا عن طريق تعهدات مالية ضخمة فى شكل صفقات تجارية وعسكرية، ثم بعد ذلك في نجاة الملك المقبل محمد بن سلمان من اي عواقب حقيقية رغم دلائل قوية على تورطه ومعرفته بقيام فريق من الرجال المقربين بقتل وتقطيع الكاتب السعودي المقيم في الولايات المتحدة جمال خاشوقجي في سفارة السعودية في انقرة.
كان لإمدادات الطاقة إذن من ليبيا تأثير على قرار الولايات المتحدة بخصوص هذا البلد، ليس فقط لأنها إمدادات مهمة لأوروبا، ولكن بسبب التأثيرات المحتملة على استقرار الأسعار فى الأسواق العالمية. ويقول نصر إن «أسواق النفط منفتحة على بعضها البعض ويؤدى نقص أو ارتفاع أسعار فى منطقة ما مِن العالم إلى ارتفاع الأسعار فى كل العالم. وإذا فقدت الدول الآسيوية تدفق نفط الشرق الأوسط، فإن طلبها على النفط لن يختفى، لكنه سيرفع الأسعار فى أنحاء العالم.. لا يجب أن نعتقد بأن مشكلة توافر عرض النفط التى يعانى منها حلفاء الولايات المتحدة وشركاؤها التجاريون لن تؤثر على اقتصادنا.
وفى اجتماع عقدته مجموعة من الباحثين الأمريكيين المتخصصين فى معهد الشرق الأوسط فى أواخر عام ٢٠١١ بات أن الحضور متفقون على أن دور واشنطن فى ضمان أمن الخليج وتدفق النفط سيستمر عاملا مهما فى تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية. وتشير الإحصائيات الأخيرة لوكالة الطاقة الدولية وتحليلات خبراء النفط فى المصارف الدولية إلى أن دور النفط الخليجى فى الاقتصاد العالمى لن يضعف بل قد يزيد فى الأعوام العشرة القادمة. بيد أن طبيعة الترتيبات الأمنية والإقليمية لضمان تدفق هذا النفط قد تختلف قليلا إذا نجح الاتفاق الإيرانى الأمريكى الأخير فى الصمود وضمّ تطمينات أمنية للأمريكان من إيران بشأن أمن واستقرار دول الخليج العربى.
وبينما تزيد أهمية الاعتبارات النفطية فى صنع قرارات السياسة الخارجية الأمريكية، يبدو أن أهمية إسرائيل تقل نسبيا خصوصا فى العامين الماضيين جزئيا؛ لأن تل أبيب لم تخضع لأى تهديد حقيقى، لكن فى الأغلب لأن الأهمية الاستراتيجية لإسرائيل عموما بالنسبة للولايات المتحدة فى انخفاض منذ نهاية الحرب الباردة.
فضلت إسرائيل بقاء مبارك وتفضل الآن بقاء الأسد، لكن هذا لم يكن سببًا مقنعا للولايات المتحدة للاستمرار فى دعم الفرعون المصرى الغارق، كما انها غيرت موقفها من الأسد بعد أن نزعت أنيابه الكيماوية، وباتت تعمل اكثر ضد الفصائل الجهادية المسلحة التي ساهم الاسد نفسه في اطلاقها من سجونها والخليج في تمويلها.
بدأت أهمية إسرائيل الاستراتيجية للولايات المتحدة فى الانخفاض منذ نهاية الحرب الباردة، وتسارع هذا التحول منذ حرب العراق الأخيرة فى ٢٠٠٣. مرت العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية بمرحلتين رئيسيتين حتى الآن. امتدت المرحلة الأولى وفقا لماثيو جايكوبس فى كتابه عن تاريخ المنطقة من ١٩٤٥ حتى حرب ١٩٦٧. وفى هذه المرحلة كان الخبراء الذين يرسمون سياسة أمريكا فى الشرق الأوسط ضليعين فى شؤون المنطقة، خصوصا الدول العربية وثقافتها وتاريخها ولغتها. وبعد حرب ١٩٦٧ أصبح الصهاينة المؤيدون لإسرائيل مؤثرين للغاية فى السياسات المحلية فى الولايات المتحدة، وتمكنوا من تحويل إسرائيل ومصالحها إلى جزء من صلب المصالح الأمريكية بما فيها الحرب الباردة والتعاون الأمنى. وصار هؤلاء الخبراء الجدد (وكانوا أكثر معرفة بتاريخ ولغة وثقافة الجانب الإسرائيلى) مؤثرين للغاية، ويضعون حدودا لما يمكن مناقشته أو التعرض له علنا بشأن إسرائيل أو صراعها مع العرب.
ومع اكتمال الفصل الختامى للحرب الباردة ونية واشنطن تقليل اهتمامها بالشرق الأوسط فى السنوات القليلة المقبلة، فإنها تسعى لوضع ترتيبات جديدة فى المنطقة ليس فقط مع إيران، ولكن أيضا مع إسرائيل، وربما يكون الباب ينفتح الآن ببطء أمام فرصة فرض تسوية سلمية امريكية فعلية (وليست بالضرورة عادلة بالمعنى الإخلاقى والتاريخى) للصراع العربى الإسرائيلى. ولكن صفقة القرن العجيبة التي عمل عليها الرئيس ترامب وزوج ابنته جاريد كوشنر في عامي ٢٠١٨ و٢٠١٩ تمخضت عن فأر هزيل. ستتناقص الأهمية الاستراتيجية لإسرائيل فى الولايات المتحدة، وسيأتى يوم تصير فيه تل أبيب معتمدة كلية على وجود اللوبى الصهيونى/المسيحى الداعم لها لأسباب ثقافية وسياسية فى واشنطن.
كانت عمليات مكافحة الإرهاب هى المحرك الرئيسى للسياسة الأمريكية حيال اليمن بعد اندلاع المظاهرات فى ٢٠١١، لأن اليمن كان شريكًا ضروريا فى الحرب على القاعدة، وتحصل صنعاء على ٣٠٠ مليون دولار سنويا مساعدات أمريكية لمكافحة الإرهاب. ولا توجد أى أدلة أن مكافحة الإرهاب كان بين الأولويات المحددة للسياسة الأمريكية فى حالة سوريا وليبيا ومصر فى ٢٠١١، ولكن مع نهايات ٢٠١٢ تغيّر الأمر، حيث تنامى بصورة درامية دور الجماعات السلفية الجهادية المسلحة فى سوريا وليبيا، وبدأت عمليات مسلحة من جماعات جهادية لم تكن مشهورة من قبل ضد الجيش المصرى فى سيناء. وأدى هذا التطور إلى ملامح تغير فى سياسة واشنطن تجاه سوريا وليبيا وإلى مواصلة الدعم العسكرى المتعلق بسيناء ومكافحة الإرهاب.
ومع الانسحاب المتوقع للقوات الأمريكية من أفغانستان وبقاء عدد أقل بكثير من الجنود الأمريكيين فى المنطقة (من كابول حتى البحر الأحمر) ستزيد أهمية قوات العمليات الخاصة الأمريكية التى تعمل بشكل مستمر أو متقطع فى ١٠٠ بلد من بينها اليمن وليبيا على الأقل. واليمن هو أحد أهم مسارح هذه الحرب، ولذا كان الموقف الأمريكى حيال ثورتها على النظام المتكلس الذى كرس للقبلية والفساد أكثر حذرا بكثير منه حيال دول أخرى، إذ إن الرئيس السابق صالح كان يمنح المؤسسة الأمنية الأمريكية تسهيلات كثيرة لا تريد واشنطن أن تفقدها.
ويبدو أن تنامى نفوذ القاعدة والسلفية الجهادية فى سوريا يدفع واشنطن تدريجيا إلى إعادة النظر فى موقفها من نظام بشار الأسد بل وقبول بقائه فى السلطة. وقال السفير الأمريكى السابق فى سوريا رايان كروكر لصحيفة «نيويورك تايمز» فى الخامس من ديسمبر ٢٠١٣ إنه «على رغم من أن الأسد شخص سيئ، فإنه ليس بنفس سوء الجهاديين الذين سيحلون محله لو اختفى، ونحتاج إلى أن نبدأ فى الحديث مع الأسد» عن مكافحة الإرهاب والقضايا الأخرى ذات الاهتمام المشترك. ولم يحدث هذا في الواقع ولكن سوريا تُكرت في السنوات الخمسة التالية لمصيرها ولروسيا وايران وحزب الله وبقايا العصابات الحاكمة واجهزة الامن الوحشية.
ولا يعنى كل ما سبق أن الجناح الداعى لأن تدعم السياسة الخارجية الأمريكية نشر الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان قد اختفى أو أنه مجرد أداة طيّعة فى يد أصحاب المصالح الاقتصادية والسياسية يلوحون بها كلما عنّ لهم هذا. لقد لعبت هذه القيم دورًا فى التدخل الأمريكى فى ليبيا وإلى درجة أقل بكثير فى مصر وهى عامل مؤثر دائما على الأقل فى تَأطير الخطاب الأمريكى. ورغم أن الجناح الداعى لنشر الديمقراطية فى الشرق الأوسط قد وهن وضعف فى واشنطن فى العامين التاليين للانتفاضات العربية فإنه ما زال موجودا. ويركز هذا التيار فى مراكز الأبحاث ومن الدبلوماسيين السابقين على أن نشر الديمقراطية مهم ليس فقط لاتساقها مع القيم الأمريكية، ولكن أيضا لأنها تدعم اقتصاد السوق وتجلب استقرارا أمنيا طويل المدى فى وجهة نظرهم. ولكن لا يبدو أنه سيكون هناك أى إجراءات فعلية على الأرض من أجل مزيد من إدماج هذه القيم فى صلب السياسة الخارجية. وفى خطابه فى مايو ٢٠١١ أشار أوباما إلى مبادئ متعددة ستسترشد بها السياسة الخارجية الأمريكية «الجديدة» فى المنطقة. وضمت هذه المبادئ «حرية التعبير وحرية التجمع السلمى وحرية الدين ومساواة المرأة والراجل أمام القانون وحق اختيار الحكومات» وكعادة كاتب خطاباته فى التحليق بلاغيا، أضاف أوباما «ولن يكون دعمنا لهذه المبادئ مسألة ثانوية بل أولوية قصوى يجب أن تترجم إلى تحركات حقيقية وملموسة وتدعمها كل أدواتنا الدبلوماسية والاقتصادية والاستراتيجية المتاحة» ولكن الكونجرس فى الحقيقة لم يكترث بهذه الوعود، ولم يساعد الركود الاقتصادى أوباما فى الضغط على الكونجرس من أجل دعم هذه المبادئ.
لم يعد لدى الولايات المتحدة هذه السطوة وتلك الموارد التى تمكنها من السيطرة دون منازع فى الشرق الأوسط كما اعتادت منذ حلت محل البريطانيين كراعٍ للمنطقة فى عام ١٩٧١. ولا تملك الولايات المتحدة أو حلفاؤها الأوروبيون الموارد المالية الهائلة المطلوبة من أجل تشكيل مستقبل المنطقة وفق مصالحهم وقيمهم. ولدى السعودية والإمارات وغيرهما من دول الخليج بعض المليارات الفائضة التى قد تدفع بها لدعم مصر طمعًا فى استقرار أكبر دولة عربية سكانا، والحصول على دعمها السياسى أو العسكرى فى المستقبل، ولكن ليس لدى الرياض أو أبو ظبى أو غيرهما استراتيجية إقليمية واضحة أو قدرة على نقل التكنولوجيا يمكن معها تحقيق انتقال ديمقراطى أو اقتصادى عميق فى اليمن أو مصر على سبيل المثال. ومن المستبعد أن تلتزم هذه الدول بالمخصصات المالية الضخمة التى قد تحتاجها دول مثل مصر لفترة طويل، وكان نائب رئيس الوزراء الإماراتى الشيخ منصور بن زايد آل نهيان صريحا عندما أعلن فى أواخر أكتوبر ٢٠١٣ أن الدعم الخليجى لمصر «لن يستمر طويلا، وعلى مصر أن تفكر فى حلول مبتكرة وغير تقليدية». ومع انسحاب الولايات المتحدة المتوقع والمتزايد من الشرق الأوسط والنقص المتوقع فى الموارد المالية المخصصة منها لتلك المنطقة، قد يبرز دور بلدين مثل الصين والهند، ناهيك عن العملاق الاقتصادى الإقليمى التركى (عملاق ليس بالمعنى المالى كما هو حال السعودية، ولكن بمعنى قوة الاقتصاد وتنوعه ومرونته فى تلقى الصدمات وموارده البشرية.. إلخ)، وأخيرا، هذا العملاق الآخر الذى يستعد للنهوض فى طهران لو نجحت مفاوضاته واتفاقاته المتعثرة الان مع الغرب.
إن عالما جديدا وتحالفات مختلفة تتخلّق الآن فى الشرق الأوسط، ولكن دول الربيع العربى غارقة لأذنيها فى إعادة ترتيب قطع الدومينو السياسية المحلية، ويبدو أنها -بما فيها مصر التى بدأ دورها الإقليمى فى التآكل منذ هزيمة ١٩٦٧- لن تجلس على الطاولة التى ستحدد مستقبل المنطقة فى السنوات القليلة القادمة، خصوصا فى ضوء ضعف القدرات الاقتصادية وتآكل الهيمنة الثقافية والفكرية وباقي اجزاء ما يعرف بالقوة الناعمة، اضافة الى تردى علاقات القاهرة مع تركيا، وغياب العلاقات مع طهران، واعتماد مصر المتزايد على دول الخليج. من الواضح أن أى تحول نحو الديمقراطية سيستغرق سنوات طويلة بعد عقود من فساد النظم المسيطرة فى دول الربيع العربى، ولكنه ليس مستحيلا. بيد أن هناك جناحا استشراقيا ليس صغيرا فى واشنطن (وفى العالم العربى نفسه) يعتقد بأن هذا التحول مستحيل ويفضل حلين قد يبدو على السطح أنهما متناقضان ولكنهما فى الحقيقة ينتميان لنفس المدرسة الاستشراقية الجديدة التى ترى أطياف الإسلام السياسى على أنها قدر ويمثل إما تهديد يجب القضاء عليه أو حليفا محتملا يمكن استخدامه.
الفريق الأول يرى أن الثقافة السياسية فى المنطقة تسودها قناعات إسلامية الطابع معادية للديمقراطية وللقيم الليبرالية ولمصالح الولايات المتحدة، ولذا لا يمكن ضمان الاستقرار إلا عن طريق نظم سلطوية وديكتاتورية تقوم بقمع جماعات الإسلام السياسى (خصوصا الجهاديين منهم) كما كان الحال فى الجزائر وتونس ومصر وليبيا. والمشكلة فى رؤية هذا الفريق أن هذه النظم الديكتاتورية وتلك الجماعات الدموية تبدو وكأنها تستدعى بعضها البعض دون نهاية فى الأفق، حيث إن العنف والحلول الأمنية المفتقرة إلى سياسات اقتصادية واجتماعية (وتحديدا التحول الديمقراطى) لا تعالج جذور المشكلة التى يستغلها المتشددون فى الحشد والتجنيد. ومع كل حادث إرهابى جديد تزداد الحاجة لإحكام القبضة الحديدية التى يتوهم الأمنيون أنها ستقضى على عدوهم الزئبقى، وفى هذا التصعيد المتبادل يهدد الطرفان بقسوة ودون هوادة كل من يرفض الاصطفاف بالطريقة التى أرادها بوش للعالم منذ عام ٢٠٠١ عندما قال: «إما أن تقف معنا أو معهم».
الفريق الثانى فى واشنطن يرى منذ سنوات أنه يجب فرز جماعات الإسلام السياسى والتحالف معه وتوظيف الجماعات المعتدلة مثل الإخوان المسلمين من وجهة نظره. ودعمت الإدارة الأمريكية هذا الحل تدريجيا منذ غزو العراق ثم كلية بحلول أواخر عام ٢٠١١ فى تونس ومصر وليبيا ومع المعارضة السورية. وسعدت الإدارة كثيرا عندما وصل الإخوان للسلطة فى مصر، خصوصا أن سياسات الإخوان لم تختلف كثيرا عن نظام مبارك فيما يتعلق بأمن إسرائيل والسياسات الاقتصادية. ولكن، ولأسباب داخلية ظهرت وتنامت معارضة شعبية واسعة للإخوان الذين فشلوا بصورة مذهلة فى إدارة الصراع السياسى مع أجهزة الدولة المصرية وجماعات المصالح فيها. سقط الإخوان وتعيّن على الإدارة الأمريكية تغيير الاتجاه مرة أخرى وهو الأمر الذى استغرق أقل من شهر، حيث أعلن وزير الخارجية الأمريكية جون كيرى فى أول أغسطس ٢٠١٣ أن الجيش المصرى خلع حكومة الإخوان وعلى رأسها مرسى استجابة لطلب الملايين من الشعب المصرى، وأن الجيش يعمل من أجل «استعادة الديمقراطية». وسكت كيرى عدة أشهر ثم أعلن الفراق بين واشنطن وحلم سيطرة جناح أسلامى معتدل على السلطة فى مصر، عندما قال فى كلمة ألقاها فى اجتماع فى الخارجية الأمريكية فى العشرين من نوفمبر أن “الإخوان كانوا قد سرقوا الثورة”.
وهكذا يبدو أن السيطرة الفكرية على السياسة الخارجية الأمريكية ستعود مؤقتا إلى نسخة ما من المدرسة الواقعية، وسنعود لنسمع المقولات المعتادة حول الانتقال الديمقراطى عن طريق نظم سلطوية رشيدة فى عملية بطيئة وطويلة من التحديث تقوم بها النخبة المسيطرة بموافقة الجيش أو المؤسسات الأمنية المسيطرة. لا بديل أخر فى الأفق من وجهة نظر هذه المقولات فى بلدان الربيع العربى (خصوصا مصر) حيث تترنح النخب القديمة وأجهزتها. واشنطن والعواصم الأوروبية (ولا شك عواصم الخليج) تخشى الثورة والبدائل غير الواضحة وترغب فى استعادة الاستقرار بسرعة لأن لديها مهام عويصة فى مناطق أخرى.
وحيث إننا نأتى إلى ختام سلسلة المقالات هذه أتعشم أن القراء -الذين نفد صبر بعضهم لا شك – باتوا الآن أكثر تفهما (وليس قبولا) لمدى دقة وتعقيد ماكينة صناعة السياسة الخارجية الأمريكية المحاطة بعوامل متشابكة واعتبارات متناقضة فى أحيان كثيرة. تحديد هذه العوامل وتحليلها وتفسير الدوافع التى تتعارض أحيانا ثم ترجمتها إلى سياسات واستراتيجيات ونيل موافقة الشعب عليها عن طريق آليات ديمقراطية (أو حتى عن طريق الخداع) أمر يستلزم صراعات كبيرة وصغيرة في واشنطن ويحتاج إلى وقت.
لقد سالت دماء أنصار العيش والحرية والعدالة الاجتماعية فى دول الربيع العربى فوضعت نهاية لعقود من الجمود، بيد أن الصراع ما زال فى بدايته حيث إن الفئات والطوائف التى اعتادت استغلال الدولة لمصالحها الخاصة ستقاتل بشراسة من أجل استعادة السيطرة. ما لا تدركه هذه الطوائف هو أن السلطوية والحكم القائم على القمع والتخويف سواء ارتكنت هذه السلطة على مكتب إرشاد أو على جهاز أمنى بدأت هى الأخرى تغوص فى الرمال المتحركة التى ابتلعت ستة رؤساء فى المنطقة ولن تكون نهاية السابع بعيدة.
وسينضم إلى هؤلاء الحزانى على انهيار النظام القديم كثيرون من واشنطن باتوا الآن يفتقدون أيام مبارك وصالح وبن على والبشير. ويقول الصحفى ديفيد سانجر، نقلا عن مسؤول أمريكى كبير، إنه فى أيام مبارك لم يكن يتعين «سوى أن يجرى مكالمة هاتفية واحدة بينما الآن يجب أن تجرى مئة مكالمة وتحدث العديد من الأشخاص» كى تنجز أعمالك فى القاهرة. وسيفتقد بعض المحللين الأمريكيين هذه الآيام أيضا وسيتعين عليهم مراجعة فرضياتهم ونظرياتهم بشأن التحول الديمقراطى ومحركات السياسة الخارجية الأمريكية فى المنطقة وثقافتها السياسية.
ويمكن لنا أن نشارك فى هذا الجدل والحوار والبحث ونغير استنتاجاته ونتائجه، أو يمكننا البقاء فى كهف نظريات المؤامرة نخشى على هيبة دول لم تعرف كيف تخدم شعوبها فباتت نظم الحكم فيها فى مهب ريح عاتية ربما تكنسها أو تدمر أجزاءً منها، ولكنها ستفتح الطريق لا شك أمام تلك الدول ليس فقط للتمتع بربيع حقيقى، بل لتعيش وتختبر فصولا أربعة فى السنة بدلا من الشتاء الطويل الذى خيم على روحها وشعوبها عقودا طويلة.