(نشرت صحيفة التحرير نسخة سابقة من هذه المقالة في ١٥ ديسمبر ٢٠١٣ وللأسف لم يعد هناك ارشيف الكتروني متاح لهذه الصحيفة)
إن محاولة تفسير السياسة الخارجية الأمريكية عن طريق اللجوء إلى تفسيرات المدرسة الواقعية المسجونة في المصالح الاقتصادية البحتة والسيطرة السياسية المحضة وافتراض مشروع استعماري على الطراز القديم من السيطرة على بلدان المنطقة لن تساعدنا كثيرًا في فهم هذه السياسات. ولن يساعدنا أيضا افتراض أن الدول العربية أو شعوبها عاجزة طوال الوقت ومفعول بها تنتظر نتائج مؤامرة يكشف لنا تفاصيلها كل يوم صحفيون ومصادر سيادية يبدو أنهم لا يغادرون كراسيهم المثبتة أمام مواقع إنترنت تفتقر معظمها إلى المصداقية. لدينا في مصر وفي أي دولة عربية (فقيرة أو غنية نسبيًا على مقياس الدخل القومي) أدوات للدفاع عن المصالح القومية والوطنية ولكن مشكلتنا الأعوّص – بسبب غياب الديمقراطية والشفافية وتحكم فئات قليلة قوية في الموارد والسياسات– اننا نعجز عن بلورة هذه المصالح كما تراها اغلبية وازنة من الشعب وبنظرة طويلة الامد. وفي واقع الأمر انزلقت معظم الجمهوريات العربية في العقود القليلة الماضية إلى أنظمة عائلية لا مصلحة لها سوي استمرار العائلة أو الطائفة أو المجموعة الضيقة في السلطة بشكل صار معه غرض بعض هذه الدول ومؤسساتها الأمنية هو تنظيم السرقة والنهب المنظمين لموارد البلاد على يد الفئات والطوائف المسيطرة.
لا شك أن لمصالح الولايات المتحدة الاقتصادية ومشاريعها السياسية الدور الأكبر في فهم تشكيل وطبيعة سياساتها الخارجية، ولكن حتى هذه المصالح تتغير مع الوقت، وإلا كيف نفهم توجه واشنطن اثناء عصر أوباما في ٢٠١٥ لمصالحة قد تكون تاريخية مع إيران رغم معارضة حليفي أمريكا الأكبر في المنطقة وهما إسرائيل والسعودية ثم تراجعها عن هذه المصالحة في ٢٠١٨ في عصر ترامب الزئبقي رغم ان ايران لم تكسب الكثير واتفق كل الاطراف عدا واشنطن انها التزمت بتعهداتها. وعندما لا تكون المصالح الاقتصادية والاولويات السياسية عرضة للخطر تتدخل عوامل أخرى لرسم السياسة الخارجية الامريكية مثلما حدث في ليبيا من أجل دوافع كانت في أغلبها “إنسانية” من جانب الولايات المتحدة، واقتصادية واجتماعية من جانب حلفائها الأوروبيين. وقد وضعت كلمة “إنسانية” بين قوسين لأوضح أني لا أقصد معاني عظيمة وإن كانت فضفاضة مثل التراحم والتعاطف بين بني البشر، ولكن أيضا قوي وأفكار متنوعة ومؤسسات محددة باتت تدافع عن وتعمل على منع وقوع أي انتهاكات واسعة النطاق في أي مكان من العالم، وعلى مساعدة الفئات المستضعفة عند وقوع النزاعات أو الكوارث الطبيعية. ومازالت القيود على هذا التدخل الإنساني عديدة وينظر إليه عادة بالتوازي مع المصالح الاستراتيجية الصلبة، ولذا عندما تكون كلفة التدخل عالية للغاية وغير مضمونة العواقب، والمصالح الصلبة ليست بهذه الأهمية تترك واشنطن قيمها وقيم الإنسانية المشتركة والمدافعين عنها جانبًا ولا تفعل الكثير مثلما هو الحال في سوريا.
وفي هذا الضوء صارت سوريا مثلا إحدى بطاقات لعبة دبلوماسية وعسكرية معقدة بين واشنطن وموسكو وطهران وانقرة وتل ابيب. ويمكن في ضوء هذه التوازنات المركبة فهم ما فعلته إدارة أوباما اثناء ازمة الأسلحة الكيماوية التي استغلتها لتفكيك ترسانة هذه الأسلحة في سوريا مع ترك بشار الأسد في الحكم بل وربما ببعض أسلحة كيماوية غير معقدة تُلقى من براميل في مؤخرات طائرات هليكوبتر، ويمكن أيضا فهم ما فعله ترامب في شرق الفرات من دعم ميليشيات سنية يسودها الاكراد ضد داعش. واعتقد أن واشنطن لا تري الآن بديلاً واضحًا يتفق مع مصالحها عوضا عن الأسد وأنها تخشي وقوع البلاد في حالة فوضي عارمة كما يقول محللون أمريكيون لو سقط النظام الحالي دون بدائل واضحة ومعروفة لها، كما ان نظاما عاجزا عن السيطرة على أراضي دولته ويعاني من عقوبات وحرب مروعة لم ينجح في الظهور بمظهر المنتصر فيها دون استقدام قوات اجنبية متعددة من خارج البلاد، لهو افضل نظام سوري بالنسبة لإسرائيل، رغم ان دمشق طالما تحاشت ان تمثل تهديدا للدولة الصهيونية.
عود على بدء، كان المحرك الرئيسي للسياسة الخارجية الأمريكية في ذروة الربيع العربي هو الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، ومنع وقوع مذابح واسعة النطاق قدر الإمكان (نجح هذا في ليبيا وفشل في سوريا). ويؤمن الاستقرار الإقليمي بدوره تدفق النفط الخليجي ويمنع ظهور أنظمة راديكالية معادية للمصالح الأمريكية في المنطقة. ولم تكن فزاعة الإخوان والإسلاميين تخوف الأمريكيين كما كان بعض المعلقين يعتقدون، ما دام لم يعاد هؤلاء الإسلاميون مصالح واشنطن وساروا على نهج مبارك وبن على وصالح. وعلى مدي التاريخ الحديث كان أقوي حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة نظمًا إسلامية محافظة أو على الأقل ترتكن شرعيتها على أساس ديني أو تحالف مع فئات شديدة المحافظة مثلما هو الحال في السعودية والكويت والمغرب. وبالتالي اعتقدت واشنطن أنه ليس من المستحيل ضرب عدة عصافير بحجر واحد عن طريق دمج الإسلاميين في النظام السياسي في تونس ومصر وليبيا طالما تبنوا مواقف معتدلة تجاه الأقليات الدينية وحقوق الإنسان، والأهم من كل هذا، هو الاستمرار في دعم المصالح الأمريكية في المنطقة أو على الأقل عدم معارضتها.
وهذا التوجه الأمريكي ليس وليد الربيع العربي بل كان واضحًا مثلا في التعامل مع “الطالبان” في التسعينيات عندما سيطرت هذه الحركة الباشتونية الإسلامية المدعومة من المخابرات الباكستانية على معظم أفغانستان وجلبت نوعًا ما من الاستقرار وبدأ لعاب شركات النفط والغاز الكبري يسيل بشأن إقامة خط نقل يمتد 1500 كيلو متر من آسيا الوسطي عبر أفغانستان وباكستان حتى المحيط الهندي. وعملت واشنطن جديًا مع “الطالبان” لفترة ما برعاية شركة أونوكال للنفط وحكومة باكستان من أجل النظر في إمكانية مد هذا الخط. وفي برقية معدة من سفارة الولايات المتحدة في إسلام آباد لمساعد وزير الخارجية لجنوب آسيا. روبيين رافاييل، آنذاك اقتبس الأكاديمي تيموثي ميتشيل قول محلل رسمي أمريكي أن الطالبان “استعادوا الأمن وصورة بدائية من حكم القانون في مناطق سيطرتهم.. وهذا أمر إيجابي”.
بل إن التحالف مع دول أو جماعات إسلامية محافظة يعود لأبعد من هذا بكثير. ولنفتح هنا قوسا ونتحدث قليلاً عن تاريخ التحالف السعودي – الأمريكي.
… بعد وفاة مؤسس الأسرة المالكة ابن سعود في عام 1953، دار صراع استمر عشر سنوات بين الملك سعود وولي عهده، فيصل، حول كيفية إدارة شئون المملكة ومن سيرث الحكم بعد سعود وكيفية توزيع الوزارات والمناصب والعطايا وإدارة العلاقات الإقليمية والدولية. كان سعود ميالاً أكثر لنوع ما من القومية العربية، ورغب في إجراء تحديثات بطيئة كي يضعف سلطة المؤسسة الدينية قليلاً، بينما مال فيصل لتعظيم الصبغة الإسلامية للمملكة والقيام بتحديث تكنولوجي وفي البنية التحتية للبلاد (طرق ومدارس ومستشفيات) وليس في نظم الحكم والإدارة. كان فيصل أيضًا مهتمًا بتأمين أشقائه المشهورين بالسديريين السبعة على خلاف اهتمام سعود بتوريث وتمكين أبنائه. وأخيرًا، والمهم، سعي فيصل إلى تمتين العلاقات مع الولايات المتحدة على أساس مكافحة الشيوعية والناصرية.
ونسيت كتابات إلى سعود إسرافه المالي وتقليديته القبلية مع تحلله من القواعد المحافظة في حياته الخاصة (كانت هناك إشاعات كثيرة عن قصص بذخه ومحظياته في بقصر الناصرية الشهير الذي يقال إنه وضع 25 ألف مصباح كهربائي في حدائقه ليحوله إلى “جنة صغيرة”)، بينما اشتهر فيصل بحكمته المالية وورعه الديني وميله إلى التحديث التقني للبنية التحتية عن طريق استيراد التكنولوجيا مع الإبقاء على الممارسات الوهابية المحافظة متأثرا في ذلك نسبيًا بتربيته الإسلامية التي تلقاها من آل الشيخ، أقربائه من ناحية أمه. ولكن إضافة إلى السمات الشخصية يعتقد ميتشيل وابوريش وكتاب آخرون أن ما جعل العائلة المالكة تخلع سعود وتعين فيصل بدعم أمريكي ليس سلوكه الشخصي المستهجن عند البعض، حيث أن هذا السلوك كان منتشرًا بين عديدين من أفراد الأسرة المالكة، ولكن لأن طريقته في الحكم وعفوه عن معارضيه أديا إلى تمكين وتصاعد العمل السياسي بين الجماهير على نطاق ضيق، خصوصًا من جانب جماعات تؤيد الناصرية أو نقابات عمالية صغيرة. وتجلي هذا الانفتاح السياسي النسبي في إضراب عمالي عام في يوليو 1956 وطالب العمال وقتها بوضع دستور سياسي وحق تشكيل النقابات والأحزاب السياسية وإنهاء تدخل شركة أرامكو للنفط التي تسيطر عليها الولايات المتحدة في شئون البلاد، وإغلاق القاعدة العسكرية الأمريكية في الظهران والإفراج عن العمال المحتجزين. وقام قسم الأمن في شركة أرامكو بالعمل مع أجهزة الأمن السعودية خصوصًا مع مجاهدي الحرس الوطني المؤلف من بقايا الجماعات الوهابية المسلحة من أجل تحديد أسماء زعماء العمال. وتم اعتقال المئات منهم وتعذيبهم وسجنهم أو نفيهم. وساهم مسئولون أمريكيون في “أرامكو” في وضع هذه الخطة وفي حث الرياض على دعم حركة الإخوان المسلمين في مصر والحركات الإسلامية في باكستان.
وقال وليام أيدي. وكان عميلاً لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية يعمل في “أرامكو”، إنه يجب عقد تحالف أخلاقي بين المسيحيين والمسلمين لمواجهة الخطر الشيوعي”. وتم عرض الفكرة على مسئولين في الأردن والعراق ولبنان ولكنهم رفضوها ورفضوا منح دعم لجماعات إسلامية لمواجهة الخطر الشيوعي المزعوم. ووفقًا لميتشيل فكر الرئيس الأمريكي أيزنهاور في دعم مكانة الملك سعود لتحويله لزعيم للعالم الإسلامي. ولكن سعود فضل فتح مساحات متعددة للعمل السياسي في بلاده وان يكون زعيمًا عربيًا في منافسة مع ناصر، ولذا نقل الأمريكان دعمهم إلى شقيقه الملك فيصل” الذي كانت من أول قراراته عزل وزير النفط عبد الله التراقي الذي لعب دورًا كبيرًا في تأسيس منظمة “أوبيك” وأزعج شركات النفط الأمريكية الكبري بخططه لسيطرة الرياض على “أرامكو” ودعوته لوضع دستور مكتوب وإقامة برلمان منتخب ووضع برنامج تصنيع في البلاد.
تصاعدت المواجهات بين الشقيقين حتى أرغم فيصل سعود على التنازل عن العرش في 1964، وبدأت واشنطن في تصوير الملك فيصل على أنه زعيم التحديث في المملكة. وعلى التوازي استأنف فيصل الحملات السعودية ضد عبد الناصر وتحويل الجماعات الإسلامية في بلدان مختلفة، ووفقًا لبرقيه من قسم رعاية المصالح البريطانية في السفارة الكندية في القاهرة بتاريخ 8 يوليو 1966 موجودة في الأرشيف الوطني البريطاني فإن صحفي الشئون الخارجية السابق في مجلة النيوزويك، هاري كيرن، أشرف على “آلة استخبارية لصالح شركات النفط في المنطقة وتعاون مع المخابرات المركزية الأمريكية، وأفادت مصادر محلية بأنه وراء خطة استعمال” “الإسلام” كمنصة سياسية لبلورة دور الملك فيصل في المنطقة.
بالنسبة للولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية كان النفط السعودي مصدر الطاقة الأهم لأوروبا الواقعة الآن تحت رعاية واشنطن والمنهمكة معظم دولها في مشروع مارشال للتعافي من آثار الحرب. وكان مبدأ آيزنهاور يقضي بأن تملأ الولايات المتحدة الفراغ الذي خلفه خروج بريطانيا من شرق السويس حتى الخليج عن طريق تعهد بنشر قوات لحماية الدول المهددة بالشيوعية. وجاء فيصل ليدعم العلاقات السعودية – الأمريكية وليحدث المملكة ونظمها المالية والتعليمية ولكن مع توطيد قاعدة المحافظة الدينية وذلك بدعم وحث أمريكيين أيضًا، إذ اعتقدت واشنطن التي ساهمت في إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي بزعامة الرياض أن الخطاب الإسلامي يقيد في مواجهة الاتجاهات القومية العربية من ناصرية وبعثية معادية للمصالح الأمريكية …
وهكذا نرى كيف عملت الولايات المتحدة مع جماعات إسلامية محافظة وعنيفة لكنها لا تهدد مصالحها، وهو ما حدث في سياق آخر عندما فتح الرئيس السادات الساحة مرة أخري أمام الإخوان والجماعات الإسلامية المنبثقة عن عباءتها الأيديولوجية ليواجه الناصرية واليساريين في السبعينيات. وكما كان قتلة السادات في القاهرة في 1981 مصريين منتمين للجماعة الإسلامية ومعتنقين لأفكار الجهاد، جاء معظم مفجري برجي التجارة العالمية في نيويورك بعد اغتيال السادات بعشرين عامًا في نيويورك من جماعات مشابهة (صار اسمها القاعدة لاحقًا) من السعودية (15 من 19 من منفذي العملية كانوا سعوديين).
كان ثمن الاستقرار في الشرق الأوسط باهظًا لأنه قام على التحالف مع نظم ديكتاتورية ارتكن بعضها على جماعات إسلامية متشددة، وانتهت واشنطن إلى دفع ثمن هذا التحالف عداء متزايدًا للولايات المتحدة في العالمين العربي والإسلامي ثم صار الثمن أعلي مع تحول في بعض هذه الجماعات للأعمال الإرهابية العشوائية المدمرة، ليس فقط ضد أعداء أمريكا، كما كان الحال مع المجاهدين في أفغانستان في الثمانينيات ولكن ضد حلفاء أمريكا وأمريكا نفسها فيما بعد.
مع هذا، لا شك أن استقرار النظم الديكتاتورية العربية الفاسدة خدم لسنوات طويلة مصالح الولايات المتحدة في المنطقة. ولم ير المخططون الأمريكيون بديلاً واقعيًا وكانوا يخشون من أن أي اضطراب قوي في استقرار هذه الأنظمة قد يدخل المنطقة في طاحونة فوضى. ولخص فالي نصر، عميد معهد الدراسات السياسية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز والمسئول السابق في الخارجية الأمريكية وجهة النظر هذه قائلاً في وقت مبكرة أنها ستتحقق مع هبوب موجات الربيع العربي، محذرا من وقوع حروب أهلية وتمزق دول، وطائفية مروعة، وأزمات إنسانية وترنح اقتصادي، وأن الأمر “لن يكون مسيرة مظفرة نحو الديمقراطية والرخاء الاقتصادي”. وتحققت عدة جوانب من الرؤية الكابوسية لنصر وكان من بين العوامل البارزة التي هددت وافشلت الانتقال نحو سياسة اكثر عدالة وتمثيلية هو الفساد الضارب في أجهزة الدولة الأمنية والخدمية (من الشرطة للتعليم للصحة) في كل دول الربيع العربي إن لم تكن هذه الأجهزة قد انهارت بالفعل مثلما هو الحال في ليبيا ونسبيًا في سوريا. وهذا ما كانت الوزيرة كلينتون تخشاه عندما قالت لأوباما وهما يفكران فيما قد يحدث في مصر بعد سقوط مبارك: “ستتطور الأمور في الأغلب بصورة طيبة (في نهاية المطاف)، ولكن الأمر سيستغرق 25 سنة”.
كان تخلي أمريكا عن الحفاظ على بقاء بن على ومبارك وصالح إقرارًا منها باستحالة الحفاظ على هذه النظم التي تعفنت وسممت مجتمعاتها. وقال أوباما لكبار مساعديه بعد حديث هاتفي متوتر مع مبارك في الثاني من فبراير 2011 إنه لن يدعم ديكتاتورًا يحتضر على أمل أن يشتري سنوات قليلة من الاستقرار لأن هذا سيؤدي فقط إلى استمرار سياسة أمريكية فاشلة ستخلف لدي المصريين إحساسًا متزايدًا بالمرارة، حيال الولايات المتحدة. وهكذا تخلت أمريكا عن الاستقرار الذي صار ركودًا على أمل الحصول على استقرار أصلب عودًا وأطول وأمنا بعد فترة متوقعة من الاضطراب. كان هذا رهان واشنطن الأول. وكان الرهان الثاني أن دخول جماعات إسلامية معتدلة للسلطة سيساهم في جلب شرعية افتقدتها النظم الديكتاتورية، كما سيشكل حاجزًا بين الجماعات الإسلامية المتطرفة المصرية على استخدام العنف مثل السلفية الجهادية والقاعدة من ناحية، والمصالح الغربية في الخليج وإسرائيل والمنطقة عمومًا من ناحية أخرى.
وفي مايو 2011 ألقي أوباما خطابًا سياسيًا قدمه مساعدوه في البيت الأبيض للإعلام كتغير مفصلي وسياسة جديدة نسبيًا تجاه الشرق الأوسط. وقال أوباما، “على مدي عقود، تبنت الولايات المتحدة مجموعة مصالح محددة في المنطقة وهي: مواجهة الإرهاب وإيقاف انتشار الأسلحة النووية، وتأمين تدفق التجارة وضمان أمن المنطقة وأمن إسرائيل ودعم سلام بين العرب وإسرائيل، وستواصل ضمان هذه المصالح مؤمنين أن مصالح أمريكا ليست سدًا واقفًا في وجه طموحات الشعوب، بل إنها ضرورية من أجل تحقيق هذه المطامح، بعد عقود من رضوخنا للواقع كما هو في المنطقة لدينا فرصة أن تخلق الواقع كما ينبغي أن يكون”.
وبغض النظر عن البلاغيات والخطابيات المنمقة، فإن خطاب أوباما لم يقدم جديدًا سوي وعده بألا تتعارض مصالح أمريكا بعد الآن مع آمال وطموحات شعوب المنطقة. بيد أن المعضلة تكمن في هذه النقطة بالضبط لأن آمال شعوب المنطقة في “العيش والحرية والكرامة الاجتماعية” تتطلب في النهاية تحولاً سياسيًا نحو الديمقراطية والمشاركة السياسية الحقيقية وهو تحول سيجلب معه في الأغلب حكومات لن تكون أداة طيعة في يد واشنطن (أو الرياض) تعتمد على مساعدات عسكرية أو مدنية من الخارج، وسيتطلب التعامل مع هذه النظم الجديدة سياسات حقيقية وصبرًا مثلما هو الحال مثلاً مع تركيا وإيران، وليس مخابرات هاتفية لقادتها وقادة أجهزة مخابرات ينصاعون بعدها في الأغلب. وربما تدرك واشنطن أن هذا التحول لابد واقع وأنها في الحقيقة تصرف أنظارها تدريجيًا نحو الشرق، ولذا فهي الآن في مهمة استراتيجية لإعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة ربما تنتهي بأن تلعب إيران وتركيا وإسرائيل الأدوار القائدة والمهيمنة في هذا الإقليم المضطرب. ولا ضمانات هناك بالطبع، فقد تندلع مواجهات عسكرية محدودة او واسعة مع ايران بعد الغاء اتفاقها النووي مع الولايات المتحدة تحت ضغط إسرائيلي سعودي عقب وصول اليمين الترامبي للسلطة في واشنطن، وقد تستمر الأوضاع سائلة او تسوء اكثر في ليبيا مما يجعل أوروبا أكثر خوفًا وقلقًا، ويسحب واشنطن مرة أخري للانغماس في المنطقة أكثر، وقد يتمدد دور روسيا أكثر بينما قد تفشل خطط محمد بن سلمان “التحديثية” ومحمد بن زايد “الامبراطورية” وتدخل المنطقة كلها في صحراء لا تنتهي من الرمال المتحركة.