(نُشرت نسخة اولى من هذا الجزء في صحيفة التحرير في ٨ ديسمبر ٢٠١٣ وللاسف فموقعها الالكتروني غير متاح. وقمت بتعديل بعض البيانات واضافة بعض التطورات اللاحقة)
رغم سنوات طويلة من القمع البوليسي المنهجي في تونس، لم تكن هناك بوادر على انفجار وشيك قريب. كان دعم نخبة رجال الاعمال والمؤسسات الأمنية وحلفاء غربيين اهمهم فرنسا لنظام بن علي يضمن له التغلب على العثرات المفاجئة من قبيل احتجاجات مناطق المناجم في الجنوب في عام ٢٠٠٨ او ارتفاع صوت المعارضين في الخراج. وسمحت السيطرة الكفؤة على وسائل الاعلام والمجتمع المدني دون فجاجة وشراسة علنية كما تفعل لبيا المجاورة من الصعب على اي مراقب توقع انهيار مثل هذا النظام الذي كان سوس الفقر المتزايد والفوارق المتصاعدة بين الأغنياء والفقراء والفساد الفاحش ينخر في عظامه. ولكن هذا النظام الواثق من بقائه للأبد تهاوي بعد اقل من اربع أسابيع في حريق شب في انحاء البلاد بداية من شعلة صغيرة اضطرم بها البائع المتجول محمد بوعزيزي النار في جسده في ١٧ ديسمبر ٢٠١٠.
كانت هناك دوماً أسباب للسخط الاقتصادي والسياسي في تونس ووصلت الى مظاهر احتجاجية مختلفة ولكن اجهزة الأمن والعلاقات العامة تمكنت من اخفائها لحد كبير. وكان اول رد فعل امريكي على الاضطرابات المتزايدة في اخر اسبوعين في ديسمبر 2010 مجرد تصريحات صحفية تدعو لضبط النفس ووقف العنف. ولم يتوفر لواشنطن وقتا لتشكيل سياسة واضحة قبل ان يترنح بن علي ويفر في ١٤ يناير ٢٠١١ إلى السعودية التي احتضنت عددا من المعزولين والمخلوعين من قبل مثل الدكتاتور المختل عيدي امين من اوغندا.
لم يكن لدي واشنطن وسائل ضغط ملائمة ومعلومات كافية عما يحدث ولم يمكنها ان تحدد بدقة مناسبة مدى عمق واتساع نطاق الغضب الشعبي والطريق الذي يدفع فيه البلاد. واتسع نطاق الحريق السياسي ليشمل كل تونس في الايام التي تلت حرق بوعزيزي لنفسه احتجاجا على سوء معاملة الشرطة له. وظن البعض أن الأمر سيمر مثلما حدث في اضرابات عمال المناجم في قفصة في ٢٠٠٨ حيث ان الاضرابات سنتها لم تمتد لتصير احتجاجات سياسية بين فئات مجتمعية اخرى وتمكنت آلة الدولة البوليسية المنتشرة من قمعها بسرعة. ويبدو ان واشنطن فكرت بنفس الطريقة وفقا لمسؤول كبير في الادارة الامريكية تحدثت معه الصحفية كيم غطاس في واشنطن. كانت استنتاجات هذا المسؤول واخرين في الايام الاخيرة من عام ٢٠١٠ في اروقة وزارة الخارجية ان “الحكومة التونسية ستقمع هذه التظاهرات … وقد اصدرنا التصريح الصحفي (المعتاد) عن حق الناس في الاحتجاج … كان رد فعلنا آلياً وكان هذا هو الجزء السهل.” لم تتوقع الاجهزة الضخمة ذات الموارد الهائلة في الخارجية والمخابرات الأمريكية باندلاع تمرد شعبي في تونس — ناهيك عن نجاحه في خلخلة او قلب النظام. وحتى لو اندلع التمرد فلم يكن لدى واشنطن وسائل ضغط حقيقية وسريعة لتتدخل بها وتغير مجرى الأمور ولم يكن هناك ما يكفي من الوقت للعمل مع الحلفاء او لخلق ادوات الضغط هذه في الأسابيع القليلة التي استغرقها الأمر لفرار بن علي. وحتى بعد اندلاع الثورة التونسية بإسبوعين كاملين وقبل ايام معدودة من فرار الطاغية لم يكن لدى المتحدثين باسم الادارة الأمريكية خطاً علنياً واضحاً حول الموقف الأمريكي ازاء التطورات في تونس.
وقبل أشهر من سقوط بن علي عرف العالم كله ان الدبلوماسيين الامريكيين الذين اعتادوا تقديم تونس كقصة نجاح اقتصادي وتحول سياسي تدريجي يفكرون بشكل مختلف او على الاقل يكتبون عن جوانب اخرى في برقياتهم السرية التي لم تحوي تفاصيل اكثر عن فساد العائلة الحاكمة مقارنة بتقارير صحفية أجنبية منشورة ولكن التوانسة لم يعرفون “أن الامريكان يعرفون ايضا”
لا يعني هذا ان واشنطن لم تكن تعرف مدي قمعية وفساد نظام بن علي. كانوا يعرفون هذا جيدا كما تؤكد برقيات السفارة الامريكية في تونس التي تسربت عبر ويكيليكس. ورغم ان واشنطن تفادت انتقاد النظام مباشرة او بقوة في التقارير السنوية التي تصدرها وزارة الخارجية عن اوضاع حقوق الانسان في العالم إلا ان البرقيات المفترض سريتها كانت أكثر تحررا من قيود الدبلوماسية العلنية. وقبل أشهر من سقوط بن علي عرف العالم كله ان الدبلوماسيين الامريكيين الذين اعتادوا تقديم تونس كقصة نجاح اقتصادي وتحول سياسي تدريجي يفكرون بشكل مختلف او على الاقل يكتبون عن جوانب اخرى في برقياتهم السرية التي لم تحوي تفاصيل اكثر عن فساد العائلة الحاكمة مقارنة بتقارير صحفية أجنبية منشورة ولكن التوانسة لم يعرفون “أن الامريكان يعرفون ايضا” ويتندرون بقصص الفساد الفاحش في برقياتهم المهنية كما يقول الصحفي الامريكي ديفيد سانجر. “وعندما قرأ التوانسة البرقيات المسربة باتوا يعتقدون ان الامريكان لا يدعمون النظام بالكامل او بقوة. وساهم هذا في أن تعبر الطبقة الوسطى التونسية عن رأيها الحقيقي في بن علي دون خوف كبير حيث كانوا يؤمنون انه دون الدعم الامريكي فان بن علي ضعيف للغاية.” ولعل هذا امر مذهل فنحن امام شعب يعتقد في قرارة نفسه ان بن علي يستمد جزء كبيراً من سطوته من دعم امريكي وفي نفس الوقت امام واشنطن متحيرة لا ترى في يدها ادوات ضغط سريعة وملائمة لتغيير المسار السياسي في تونس.
ولخص ناشط تونسي على وسائل التواصل الإجتماعي هذا الايمان بالجبروت الأمريكي قائلا: “للمتدينين لا يحدث شىء دون مشيئة الله. وللعلمانيين لا يحدث شىء دون ارادة الولايات المتحدة.” والاعتقاد المبالغ فيه في القوة الامريكية قاسم مشترك بين معظم العرب بغض النظر عن تدينهم. سنرى هذا في مصر وفي ليبيا وفي اليمن وغيرها: مبالغة في قوة واشنطن من جانب العواصم والشعوب العربية، وعجز وعدم رغبة امريكية متزايدة في التدخل سوى بالطرق الدبلوماسية والتصريحات. طبعا سيصل التدخل الأمريكي الى قصف واسع النطاق بمشاركة حلفاء الأطلسي ومباركة مجلس الأمن لقوات القذافي ونظمه مواصلاته واتصالاته في عام ٢٠١١ ولكن التدخلات العسكرية اللاحقة كانت ضربات محدودة او دعم مادي او عيني لقوات اطراف بعينها على الأرض.[1] تخاذلت واشنطن عن القيام باعمال عسكرية اضافية في المنطقة اتساقا مع سياسات اوباما المهتم اكثر بالانسحاب التدريجي من المنطقة بعد تسوية التحديات الرئيسية في ايران في صفقة حول برنامجها النووي مع استمرار عمليات تفاوضية وسلمية لا ينتظر ان تؤدي لنتيجة قريبا حول سوريا والصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لا يعني هذا ان امريكا ليست اقوى دولة في العالم ويمكنها عسكريا واقتصاديا ومنفردة تحقيق بعض اهدافها ولكنها لا يمكنها استعمال هذه الادوات طول الوقت ولتحقيق كل اهدافها وبات عليها ان تنال رضا ودعم حلفاء في قضايا كثيرة كما ان اهتمامها الحقيقي بالشرق الاوسط بات يقل مع الوقت، حيث يتركز اهتمامها الاقتصادي والامني على الصين وما جاورها.
وقبل فرار بن علي من تونس بيوم واحد، كانت الوزيرة كلينتون حذرة في خطابها الذي القته في اصغر دولة عربية (مساحة) واغني دولة عربية (بمقياس متوسط دخل الفرد) وهي قطر. حيث قالت في الدوحة في ١٣ يناير ٢٠١١ ان أسس الشرق الأوسط “تغوص في الرمال”. لم تذكر كلينتون تونس او تتحدث عن الانظمة مباشرة ولكن تصريحها كان واضحاً لكل من يعرف قراءة ما بين سطور التصريحات الأمريكية الرسمية. كانت تصريحات كلينتون مطالبة امريكية بالتغيير وبسرعة قبل ان تبتلع الرمال انظمة حليفة حقاً ولكن انعدام كفائتها جعلها عبئا متزايدا على شعوبها وعلى مصالح الولايات المتحدة.
فوجئت الإدارة الأمريكية بتطورات تونس رغم علمها بفساد وقمعية النظم التي كانت قواعدها تغرق في الرمال كما قالت كلينتون. ورأى الواقعيون ورجال المخابرات في واشنطن أن هذه الانظمة وخاصة في تونس على قدر عال من الشراسة ولن تسمح بان يخلعها تمرد شعبي. وحتى بعد سقوط بن علي وبعد ٢٤ ساعة من اندلاع مظاهرات حاشدة في مصر، وقف اوباما يلقي للكونجرس خطاب حالة الإتحاد السنوي في مساء ٢٥ يناير (فجر ٢٦ يناير بتوقيت القاهرة) في الكونجرس قائلا: “الولايات المتحدة تقف مع الشعب التونسي وتؤيد التطلعات الديمقراطية لكل الشعوب.” وهي تصريحات اقل وصف لها انها فارغة من المضمون وخالية من اي تبعات على أرض الواقع. وتعين على مؤيدي الديمقراطية والحالمين بهز عرش مبارك الانتظار عدة ايام قُتل خلالها مئات منهم بالرصاص في مواجهات حادة مع قوات الأمن وبلطجيتهم قبل ان تدعم واشنطن “تطلعاتهم الديمقراطية” عن طريق تصريح صحفي اخر.
آمنت الادارة الأمريكية دوماً بان امامها اختيار وحيد في مصر: إما شلة مبارك ذات الصبغة العسكرية المتحالفة مع رجال الأعمال وإما الاخوان المسلمين. وكان هذا الخيار الثنائي الطابع محور جلسات عمل وعصف ذهني وبناء سيناريوهات واحتمالات مستقبلية مرات عديدة في قاعات وزارات مختلفة في واشنطن او مراكز ابحاث. ولكن المشاركين لم يعتقدون ابدا ان احتمالات وصول الاخوان للحكم واقعية. ولذا فوجىء رجال الادارة ونساؤها حقاً كما قال لي مسؤول بارز سابق في الخارجية بالتطورات في مصر وبان من اشعلها وقادها، على الأقل في البداية، ليسوا الأخوان المسلمين. وحكي المسؤول لي: “في مصر اعتقدنا انه كان واحدة من هذه التظاهرات … وتحدثت الى زملائي قبل وقوعها بيومين وبدأنا نرى انها ستكون اكبر مما توقعنا … وفعلا كانت أضخم وبات واضحاً ان هناك مستوى جديداً من التصعيد.” وقال لي مسؤول اخران الأمر استغرق بضعة ايام قبل ان يقدر المراقبون الرسميون الأمريكيون عمق الغضب واتساع نطاق الاحتجاجات الشعبية. واضاف: “اعتقدنا حتى نهاية ٢٨ يناير (جمعة الغضب) عندما انهارت الشرطة في انحاء مصر ان مبارك يمكنه النجاة من هذه الموجة إذا تنازل بعض الشيء. لقد كانت لنا علاقة طويلة مع مبارك. ولو قدم تنازلات للمحتجين كانت الاحتجاجات ستذوي.” ومن الواضح ان محاولات انقاذ مبارك سيطرت على تصرفات الادارة الامريكية حتى مساء أول فبراير عندما القي مبارك الرئيس الشائخ خطاباً فارغاً من المعني لا يشمل اي خطوات حقيقية صلبة لفك حلقة نار الغضب التي باتت تحيط به شعبياً. وقال لي مستشار سابق كبير في مجلس الأمن القومي تحدثت معه يوم ٣ فبراير ٢٠١١ في نيويورك بعد موقعة الجمل: “لو كان لي أن انصح مبارك اليوم لقلت له ان يقدم بعض التنازلات، ويعين حكومة جديدة وبعد عدة أشهر يستخدم قبضة حديدية ويسحق المعارضة.” وفي ثانيتين شعر الرجل أنه تمادي بعض الشيء فتوقف وفكر قليلاً ثم أضاف: “اقول هذا بصفتي الآن أكاديمياً درس النظم الديكتاتورية لفترة طويلة وليس لأنني اريده ان يتخذ هذه الخطوات” ويخدع معارضيه. ولكن مثل مسؤولين كثيرين في الادارات الأمريكية من المدرسة الواقعية القديمة، كان هذا المسؤول المتقاعد يري تناقضاً لا يمكن حله بين اجراء تحول ديمقراطي في نظم الحكم في المنطقة العربية ومصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية الأساسية. يعرب عن أمله ان تسود الديمقراطية في المنطقة ولكنه يعتقد ان ثمن التحول يمكن ان يكون باهظاً للغاية ومصدر اضطرابات لا يمكن توقع نطاقها وتأثيرها. وثانياً، يرى نفس المسؤول ان الثقافة السياسية في المنطقة معادية للديمقراطية. وقال لي أن الشعوب ليست جاهزة بعد لأنها “تفتقر لثقافة الديمقراطية” وكأنما كان يستحضر نفس كلمات رئيس المخابرات المصري الراحل عمر سليمان عندما قال للمذيعة الأمريكية الشهيرة كريستيان آمانبور في برنامج على محطة ايه بي سى في ٦ فبراير ٢٠١١ قبل سقوط مبارك الذي حدث بسبب ضغط نفس هذا الشعب غير الجاهز بعد.
وكان موقف الوزيرة كلينتون حتى أول فبراير وفقا لديفيد سانجر هو ان “الطريق الصحيح الآن هو الضغط على مبارك من أجل التغيير … وليس سحب البساط من تحت اقدامه.” وحاولت كلينتون إقامة توازن بين المصالح الحيوية الاستراتيجية من ناحية وقضايا الديمقراطية وحقوق الانسان من ناحية اخرى. وقالت في تصريحات ستظل تطاردها طويلاً: “نحن ندعم الحق الاصيل في التعبير والتجمع لكل البشر … ولكن تقويمنا ان الحكومة المصرية ما زالت مستقرة وتنظر في عدة سبل من اجل الاستجابة للاحتياجات والمصالح المشروعة للشعب المصري.” وجاءت تصريحاتها بعد عدة ايام من تصريح صحفي غريب أدلى به نائب الرئيس جو بايدن في ٢٧ يناير وقال فيه ان “مبارك ليس ديكتاتوراً.”
كانت الادارة قد وصلت لشبه قناعة ان مبارك ساقط لا محالة وانه يجب الشروع فوراً في اعداد خشبة المسرح لبطل جديد
وغيرت الإدارة موقفها بعد خطاب مبارك العاطفي في اول فبراير حيث اتضح رفضه لأي تغيير حقيقي رغم وعود سابقة بانه سيكون مرنا. وتأكد التغيير مع موقعة الجمل في اليوم التالي. وصعدت الادارة الأمريكية من اتصالاتها عن طريق القنوات المدنية/العسكرية (وزارة الدفاع) الخاضعة لتوجيهات مجلس الأمن القومي لضمان التزام الجيش المصري انه لن يستخدم العنف ضد المحتجين. كانت الادارة قد وصلت لشبه قناعة ان مبارك ساقط لا محالة وانه يجب الشروع فوراً في اعداد خشبة المسرح لبطل جديد ولذا يجب ألا يتورط الجيش فيما اعتقدت الادارة انه سيكون مغامرة فاشلة ودموية اذا حاول المشير محمد حسين طنطاوي وقيادة الجيش ابقاء مبارك في السلطة.
كان البيت الأبيض، حتى موقعة الجمل، منقسماً ازاء ما يتعين القيام به. دعا المعسكر الأول إلى الإقلال من التصريحات الصحفية بشدة على أمل ان يتغلب مبارك على المعارضة وساعتها لن تكون مثل هذه التصريحات عقبة تصّعب من بناء العلاقة مع الديكتاتور المصري. وضم المعسكر المقابل من كانوا يهتمون أكثر بالمباديء وبتركة اوباما وماذا سيقول التاريخ عنه والمصالح الاستراتيجية طويلة الأمد في المنطقة، وطالبوا باصدار تصريحات واضحة وخاصة بعد موقعة الجمل تؤيد مطالب المحتجين المشروعة. واستمرت هذه المواجهة اسبوعاً (من 25 يناير حتى أول فبراير) وهو وقت “ربما كان طويلا جدا لمن كانوا على ارض الواقع في ميدان التحرير ولكنه كان وقتا قياسيا في واشنطن لانجاز تحول كبير في السياسة الخارجية الأمريكية” عندما ينشب نزاع بين فريقين متعادلين في القوة.
وأنهالت الإتصالات الهاتفية على وزير الدفاع آنذاك المشير طنطاوي ورئيس أركانه سامي عنان من وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس ورئيس اركان الجيش الأمريكي واعضاء في الكونجرس للتشديد على اهمية عدم استخدام العنف ضد المتظاهرين السلميين. وكان لدى المشير طنطاوي اسباب عدة لتبني موقفه النهائي بعدم الدفاع عن مبارك عن طريق إطلاق الرصاص على التجمعات المحتجة. كان موقف الجيش غير واضح وحتى يوم موقعة الجمل عندما ترك المهاجمين القادمين على ظهور جمالهم وخيولهم يدخلون الميدان او عندما ساهم في تضييق الخناق أحيانا على المحتجين داخله ولكن طنطاوي وكبار القادة المصريين وفقا لسانجر نقلا عن مسؤولين أمريكيين كانوا يخشون لو اصدروا اوامر صارمة بايقاف الاحتجاجات بالقوة ان ينشق ضباط صغار ويرفضوا اطاعة الأوامر باطلاق النار وهذا يمكنه ان يشق الصفوف، وعلى صعيد استراتيجي فانه وكبار القادة كانوا ضد مشروع التوريث ويشعرون ببعض الغضب ازاء التهميش المتزايد لدورهم في اتخاذ القرار مقابل تزايد قوة مجموعة جمال مبارك في الحزب الوطني والاقتصاد والتأثير على الرجل الكبير. وأخيرا شعر الجيش بتقليص لدوره كمؤسسة أمنية في مواجهة مؤسسة أمنية اخرى كان دورها يتغول على كل المؤسسات تقريبا وهي وزارة الداخلية وعلى رأسها حبيب العادلي وذراعه الضاربة في جهاز أمن الدولة.
وصل كبار القادة العسكريين المصريين الى نفس النتيجة التي حدثت من قبل في كوريا الجنوبية في الثمانينيات وفي اندونيسيا في التسعينيات وهي ان زعيم البلاد العجوز قد تحول من ذخر لها إلى عبء عليها، وأنه إذا لم يتدخل بسرعة سيكون من المستحيل انقاذ أي جزء من النظام بما فيه الجيش نفسه دون مواجهات دموية واسعة النطاق.
وبعد الثاني من فبراير بدأ ضباط الجيش المصري في تلقي رسائل بريد الكتروني من نظرائهم الأمريكيين الذين تلقوا تدريبات عسكرية سوياً وفقا لسانجر الذي يقول في كتابه ان الضباط الأمريكيين كانوا يحذرون نظرائهم المصريين من اطلاق النار على المحتجين.” واقتنعت المؤسسة العسكرية في ضوء التطورات الواقعة في شوارع وميادين القاهرة بين الثاني والعاشر من فبراير والخوف من التصاعد المستمر للمطالب الشعبية اضافة إلى التحذيرات المستمرة من واشنطن، إن الجيش سينال دعماً شعبيا “ودعماً امريكياً إذا وقف ضد مبارك” وخلعه. لقد وصل كبار القادة العسكريين المصريين الى نفس النتيجة التي حدثت من قبل في كوريا الجنوبية في الثمانينيات وفي اندونيسيا في التسعينيات وهي ان زعيم البلاد العجوز قد تحول من ذخر لها إلى عبء عليها، وأنه إذا لم يتدخل بسرعة سيكون من المستحيل انقاذ أي جزء من النظام بما فيه الجيش نفسه دون مواجهات دموية واسعة النطاق.
ورأي قطاع متزايد العدد من صناع السياسية الخارجية الأمريكية ان افضل سيناريو لمصر يمكن معه الحفاظ على المصالح الإستراتيجية الأمريكية وصيانة قيمها هو انقاذ النظام بعد قطع رأسه، او بمعنى اخر التخلص من مبارك ودائرته الضيقه والحفاظ على التحالف القائم بين الجيش ورجال الأعمال عموما (من غير المقربين لمبارك) وبيروقراطية الدولة (مؤسسات الأمن والقضاء والإعلام والخارجية والأزهر). وابلغ قادة كبار في الجيش المصري مسؤولين امريكيين وفقا للصحفية كيم غطاس ان الأمور كلها باتت مهيئة لرحيل مبارك في العاشر من فبراير. ولكن الطاغية العجوز (٨٣ عاماً) راوغ مرة اخري مساء نفس اليوم مما اضطر وزير الدفاع جيتس للأتصال هاتفياً بنظيره المصري طنطاوي ليقول له ان على مبارك أن يرحل. وكان هذا ما حدث خلال ساعات. لا يعني هذا ان البنتاجون خلع مبارك. اطلاقاً. بل كان الأمر تلاقي مصالح وبعث البنتاجون برسائل للمؤسسة العسكرية حول اهمية عدم التورط في دعم نظام يتهاوى. وبدا لكليهما ان خيار رحيل مبارك هو الافضل من اجل استقرار سريع وتفادي ثورة عارمة تقلب البلاد رأسا على عقب ويشيع معها الاضطراب وتصبح معها مصالح المؤسستين العسكريتين في البلدين والطبقات المسيطرة والبلدان المهمة في المنطقة في مهب ريح عاتية. ولا يعني هذا ان المؤسستين تقفا وراء رحيل مبارك. لقد كانا الاداة والعامل المساعد الذي بدونه لم يكن ليتم التفاعل لكن العنصر الكيميائي الرئيسي في هذا التغير كان الشعب الذي أراد فكان له ما أراد. ولكن سقوط زعيم أمر واعادة هيكلة نظام مستقر وراكد وعميق بعدها امر مختلف للغاية.
[1] للولايات المتحدة تاريخ عسكري طويل ومخز في المنطقة محاوره دعم إسرائيل ونظم الخليج العربية ومصر وقامت بقصف وهجمات مباشرة بعضها ضخم ومتواصل مثلما في فعلت لاخراج العراق الغازي للكويت في ٢٠٠١ او لغزوه هو ذاته واسقاط نظام صدام في ٢٠٠٣ او قصفها لليبيا الانتقامي في ١٩٨٦ او في اطار حلف الأطلسي وبمباركة مجلس الامن في ٢٠١١ او تقديم الدعم لميليشيات متحالفة في سوريا او قصف مواقع داعش في سوريا مباشرة بين ٢٠١١ و ٢٠١٩ وقصف قاعدة الشعيرات السورية الحكومية في ابريل ٢٠١٧ بعد تقارير مؤكدة عن قصف بلدة خان شيخون في ريف ادلب بأسلحة كيماوية حكومية.