(نُشر في درج بتاريخ اول مايو ٢٠١٩)
يُقال إن طارق بن زياد، قائد جيش الأمويين أحرق سفنه وخطب في جنوده قائلاً: “أين المفر، والبحر من ورائكم والعدو أمامكم”، بعدما عبر المضيق الجبلي الذي سمي باسمه في ما بعد، في أقصى غرب البحر المتوسط، ليفتح ممالك إسبانيا الحالية. يشكك مؤرخون في أن بن زياد، ذا الأصول المختلطة، ألقى خطبة عربية عصماء كهذه في جنود، ربما كان معظمهم من الناطقين بالأمازيغية، لكن لا شك في أن موقف من يريدون عبور مضيق جبل طارق خلسة الآن صار أشق وأتعس، فالبحر يلفهم والعدو في كل النواحي يحدق بهم، وليس هناك من خطوط رجعة معقولة، ولا مسارات آمنة للتقدم. ليس غريباً إذاً أن يكون “الحرق” التعبير الشائع الآن، عن تجاوز كل العقبات والقفز بلا خطوط رجعة نحو أراضي أوروبا الواعدة بين الشباب، وفي أغاني الراب، وأن يكون التعبير الجزائري الأصل، “الحراقة”، هو الوصف الشائع بين هؤلاء الأشخاص، الذين يحرقون أوراقهم الثبوتية ويتجاهلون إجراءات الهجرة الرسمية ويقفزون نحو موت محتمل في البحر.
ومنذ عام 2014، يموت أو يختفي نحو 40 شخصاً من هؤلاء “الحراقة” في أنحاء العالم كل يوم، أثناء محاولاتهم عبور الحدود من دون موافقة الدول المعنية، تلك “المباركة” التي تصير أصعب فأصعب، وبخاصة بالنسبة إلى طالبي اللجوء والإقامة. ولأن منطقة جنوب المتوسط وشرقه، وبخاصة دول الشمال وساحل أفريقيا وسوريا القريبة من البحر المتوسط، منطقة منكوبة فقد صارت ممراً لا يهدأ لهؤلاء الفارين. ومن هؤلاء سقط 2275 غرقى في مياه المتوسط، أثناء مسعاهم للعبور إلى شواطئ أوروبا عام 2018. كيف يموتون ولماذا يختفون؟ ولماذا الصراع حول توصيفهم: هل هم بشر هاربون من جحيم حرب أهلية او اضطهاد عرقي أو جنسي أو سياسي، أم هم مجرد مهاجرين غير شرعيين فارين من الفقر وباحثين عن فرص عمل وحياة كريمة، ينتهكون القانون ويرفضون الوقوف في صف طويل قد لا ينتهي في حياتهم؟ هل هم متواطئون مع شبكات تهريب يدفعون لها مقابل العبور بهم من الفخاخ المنصوبة، أم أنهم ضحايا عصابات اتجار بالبشر، يمكن أن ينتهي بهم الأمر في العبودية الجنسية أو انتزاع أعضائهم الحيوية وبيعها؟ أم هم كل هذا وأكثر؟
وعلى رغم انخفاض أعداد القتلى غرقاً في المتوسط عام 2018، مقارنة بالعام السابق (3100 قتيل في 2017)، إلا أن الرقم يستمر في الارتفاع بالنسبة إلى عدد الساعين للرحلة. ففي 2015، مات واحد من كل 270 مهاجراً غرقاً، بينما وصلت النسبة إلى واحد من كل 51 في 2018، أو حوالى 2 في المئة، وفقاً لأرقام المنظمة الدولية للهجرة. ونحو ثلثي المهاجرين القتلى في العالم يلقون حتفهم على حدود أوروبا، هذه الحدود لم تعد مجرد أنهار أو سلاسل جبلية أو اسلاك شائكة، بل صارت حيطاناً وأسواراً ونظماً الكترونية للرقابة، ارتفع عددها من 15 منطقة حدود مؤمنة بهذه الطريقة عام 1990 إلى 70 عام 2019.
ويتزايد العداء لطالبي اللجوء الفارين من البؤس المريع والخطر الداهم في البلدان المجاورة، التي وصلوا اليها لأسباب متعددة، ولكنها تشترك في لا مبالاة متزايدة، بل ورفض صريح لوجود إنسانية مشتركة يستحق افرادها الحد الأدنى من العدالة والحقوق. يتهاوى حلم القرن العشرين في التقدم والحقوق الكونية لكل البشر بالتساوي، بغض النظر عن الجنسية والموطن الأصلي، وأهمها الحق في الحياة واللجوء بغض النظر عن الجنسية والنوع والعرق والانتماءات السياسية والدينية. وبعدما كانت القومية والخصوصية الثقافية دوافع للتحرر من الاستعمار والاستغلال وبناء دولة مواطنة، صارت ذرائع للتمييز ضد الآخر ونزع صفة الانسانية عنه.
بمرارة عبّر مهاجر بعد فشله في عبور المتوسط ونجاته من الغرق، عن هذه المعضلة الشيطانية: “الموت دفعة واحدة أفضل من الموت بالتقسيط”. وأكد أنه سيحاول أن “يحرق” مرة أخرى، فإما أن يتمكن من العبور إلى أرض أخرى أو يحترق ويغرق.
فعلى رغم توقيع كل بلدان العالم تقريباً، العهد الدولي للاجئين الصادر 1951، والذي ينص على منح الحماية أو حق اللجوء لكل من لديه خوف مبرر من التعرض للاضطهاد بسبب العرق، الدين، أو الانتماءات السياسية والاجتماعية، فإن معظم اللاجئين، أو 85 في المئة من الفارين من بلادهم، ينتهون في بلدان مجاورة تعاني في الأغلب من مشكلات البلد الأصلي ذاتها، من فقر وعنف واضطراب.
ويعني هذا أن تلك الدول ومنها تركيا وباكستان واوغندا ولبنان وايران وبنغلاديش والسودان على الترتيب، تتحمل عبئاً كبيراً، وتقوم بمهمات يتعين وفقاً لتفاهمات “تقاسم المسؤولية” في نظام المساعدات الانسانية الدولي، أن تساعدها فيها الدول الأخرى، بخاصة أن هذه الدول بلا مواربة لا تريد لهؤلاء اللاجئين ان ينتهوا على عتباتها، وتفضل أن يعانوا من حياة بائسة في ليبيا أو لبنان بدلاً من حرج موتهم على شواطئها، أو الاضطرار إلى قبول عدد منهم، ودفع الثمن السياسي في مناخ يصير أكثر معاداة للهجرة وللفقراء والباحثين عن مأوى آمن. ويزيد الليل ظلمة، الاستغلال السياسي والاقتصادي للاجئين، كما يحدث في معظم هذه الدول المجاورة المستقبلة للفارين والناجين، بما فيها تصريحات سياسيين وصحافيين، تستغل مشاعر الخوف وتنفخ في جمرات الحقد العنصري والجهل الثقافي. وحتى مع ألمانيا التي قبلت قرابة المليون لاجئ في الأعوام الخمسة الأخيرة، فإن كل الدول الصناعية والغربية سوياً، تستوعب أقل من 15 في المئة من طالبي اللجوء واللاجئين في العالم.
ما زال القسم الأكبر من اللاجئين يفضل الذهاب إلى أوروبا وأميركا، حيث توجد حماية قانونية أفضل، لمن يتمكن من اجتياز البحر أو الدخول من الباب، عوضاً عن عيش موقت مهدد طوال الأيام، كما في دول الجوار المسكونة بمخاوف مركبة، حيث تندر فرص العمل. ويضطر الناجون في تلك البلدان إلى العمل ساعات طويلة بأجور هزيلة، وتخضع نساء لاجئات للابتزاز الجنسي، ويُحرم الأطفال من الرعاية الصحية والتعليمية المجانية. ويزداد العداء للمهاجرين الفقراء أو مختلفي الثقافة بشكل واضح، فمثلاً النساء الأفريقيات غير المسلمات والعازبات المستقلات هن في قاع بئر الاضطهاد في مدينة مثل القاهرة، حيث يعانين من التحرش الجنسي واللفظي المستمر بمجرد خروجهن للشارع أو في مكان العمل.
ولكن الانتقال من بلد لجوء موقت إلى حل دائم وبلد يتوطن فيه اللاجئ صار أصعب منذ 2016، عندما بدأت أوروبا ترفع حواجزها أعلى وأعلى بعدما تدفق إليها عدد قياسي من السوريين والعراقيين والافغان بين عامي 2013 و2015. ومع تصاعد المد اليميني والمبالغة في مخاطر تدفق اللاجئين، باتت أوروبا قلعة حصينة يصعب دخولها لغير الأغنياء وحاملي جوازات السفر المناسبة. وشملت إجراءات “التحصين” الأوروبية اتفاقاً مع تركيا في 2016، لتحصين الحدود البحرية، ومنع تدفق المزيد من المهاجرين، ثم اتفاق مع ليبيا للغرض ذاته، ولدعم حرس الحدود الليبي وتقويته.
ووثقت “منظمة العفو الدولية” و”أطباء بلا حدود“، دور هذه الميليشيات الليبية في اعتقال الساعين للهرب في البحر، ونقلهم إلى مراكز احتجاز في ليبيا، حيث يتعرضون للتعذيب والاغتصاب والاستغلال الجنسي، بينما يذهب الأمر ببعضهم إلى أن يصبحوا رقيقاً، تتاجر بهم ميليشيات متعددة مسلحة. حوالى 600 ألف لاجئ وطالب لجوء أفريقي في ليبيا، زيد وضعهم سوءاً كل يوم، بسبب العمليات العسكرية المتزايدة في إطار زحف جيش خليفة حفتر على العاصمة طرابلس، ويقبع 2700 منهم في معتقلات سيئة في طرابلس تحت النار.
وأخيراً بدأت الدول الأوروبية العام الماضي مضايقة من يحاولون مساعدة الفارين في البحر المتوسط. هؤلاء المتطوعون من محبي الخير ورافضي الغرق كمصير حتمي لمعظم الفارين طالبي اللجوء، تمكنوا من إنقاذ 80 ألف شخص مهددين بالغرق في المتوسط، ومساعدتهم، في عملية شاركت فيها منظمات أهلية فرنسية وألمانية وإيطالية وسويسرية، استأجرت سفناً عدة وجابت المتوسط لإنقاذ هؤلاء الأشخاص. وفي منتصف 2018، أغلقت مالطا وإيطاليا سواحلها وموانئها، أمام أي سفينة تحمل ناجين أنقذتهم من مياه المتوسط ومنعت فرنسا خروج سفينة إنقاذ إلى البحر.
وقبل كل هذه الإجراءات، صارت طلبات الهجرة “الشرعية”إلى أوروبا وشمال أميركا، أكثر تعقيداً، وتستغرق فترات طويلة. ولم تقبل أوروبا والدول الصناعية سوى 100 ألف لاجئ عام 2017. وبالتالي، لم يعد أمام من صارت حياتهم كالموت، سوى القفز في المتوسط في مراكب مهترئة والخضوع لشبكات تهريب متزايدة الخطر، ثم العيش بشكل غير قانوني على الضفة الأخرى أو الدخول في عملية طويلة للجوء.
وعلى رغم هذه العوائق والمخاطر، لن يتوقف هذا الزحف القاتل في زمن صار فيه العمال غير المهرة يفرون حتى إلى بلدان هي في حالة حرب أهلية – مثلما فعل المصريون على مدى سنوات في ليبيا والعراق – لأن الحياة فيها ما زالت أفضل من مأساة حياتهم اليومية القاتمة. سيستمر الولع بالرحيل وحرق المراكب وأوراق الهوية لدى جيل من الشباب، يعاني من الفقر وانعدام الأمل والحروب الأهلية والتدخلات العسكرية الدولية (والمحلية) والنخب المملوكية، التي تسعى إلى أسرع تربح، وتلفظ كل حديث عن حقوق الناس وأحلام المساواة. ليس مفاجئاً أن تعبير الحرق أتى من الجزائر الغنية بالنفط والغاز والمنهوبة الموارد لمصلحة نخبة لصوصية. وبمرارة عبّر مهاجر بعد فشله في عبور المتوسط ونجاته من الغرق، عن هذه المعضلة الشيطانية: “الموت دفعة واحدة أفضل من الموت بالتقسيط”. وأكد أنه سيحاول أن “يحرق” مرة أخرى، فإما أن يتمكن من العبور إلى أرض أخرى أو يحترق ويغرق.