فشلت انتفاضة المصريين في يناير ٢٠١١ في تغيير النظام السياسي، ونجحت أو أعلنت بقوة تجلياتها تساقط اساطير وقيم متعددة حاكمة لحياتنا وكانت قد تفسخت ولكن اشباحها تكتم على انفاسنا، وما زالت. يظهر هذا في عدد كبير من الروايات التي تشرّح وتشرح تاريخنا وتستشرف مستقبلنا بطريقة تحطم بانتظام تخيلاتنا عما كنّاه وعما علمونا في المدارس وأجهزة الاعلام المترنحة ان نحلم بان نكون. ربما لم تنجح الثورة في بناء الجديد سياسيا وماديا ولكنها تفتح الطريق ببطء دق قطرات ماء على حجر حتى تنحته او تفتته نحو ما ليس نعرف.
وينتمي لهذا التيار رواية “الشمندر” للروائي خالد الخميسي (دار الشروق، ٢٠١٨). مدخل الشمندر للحياة يمر من خلال الجسد والعلاقات الجسدية الحميمية بين البطل/الرسام شهاب ونساء كثيرات عبرن في حياته – او في الاغلب عبر هو في حياتهن، ورجال هم هامشيين لحد كبير في الرواية ربما باستثناء الاب والجد. رغم هذا ف “الشمندر” ليست رواية عن الجنس بقدر ما هي عن طبقة وسطى او شريحة منها وخصوصا عن رجالها، ورغباتهم المشوَهة والمشوِهة، النساء في كثير من حالاتهن هدف للرغبة والعنف والامتلاك.
“الشمندر” هي ايضا وعاء يكتب فيه الخميسي عن تغير الناس والبلاد في المئة عام الأخيرة، وخاصة في علاقتهم بالثروة والجسد والدين والتاريخ والعائلة.بالتالي هناك حواديت كثيرة وازمات درامية متلاحقة. و”الشمندر” لوحة فسيفساء تهشمت بعض اجزائها، تستشف جمالا ما هناك وشرّا ما هنا وولع وشغف وعشق وغضب وانتقام … ولكن الآسى والتفكك في نهاية الرحلة خيط ينتظمها.
تفكك شخصيات الخميسي مسلمات واساطير (وقد تقبل التفكيك او تراه متجاوزا او يخص تلك الفئة الصغيرة ولكني اظنه يقبض على تحولات عديدة بشكل جيد). مفاهيم الشرف، الوطن، الدين، الايمان، الابداع، الأصل، الضحية والجلاد، كلها تتعرض لهزات في كيف تفهمها وتمارسها وتعيد تركيبها شخصيات الرواية. وحتى التاريخ ذاته، فمثلا تظهر لنا حرب ١٩٦٧ عدة مرات. شهاب، الرسام والبطل المهووس بالمرأة جسدا وارتباطا وعشقا والتي تمثل له الوطن والملاذ والمخرج والمدخل، يحاول الانتحار في بداية شبابه لأنه رسب في كل المواد الدراسية (انهزم بصورة ساحقة) ولكنه مثل عبد الناصر يفشل. ولكن في مكان أخرى في مسار مختلف ينتحر يونس عبد الحميد بابتلاع ١٠٠ قرص منوم. ينتحر هذا الرجل، والد ضحى التي ستتزوج شهاب في مستقبل الايام، في المانيا حيث كان يحاول ويفشل دائما ان يجعل ابنته تتحدث اللغة العربية.
تعاني “الشمندر” من بعض تنميط في اللغة (صورة الفوران بعد الغليان دلالة على احتدام الرغبة واشتعالها) ثم بعض تنميط في شخصياتها التي يشعر القارئ أحيانا كأنها كلها هناك فقط من اجل شهاب: الجد المتهتك، الجدة السادية، الخادمة المازوخية، الألمانية الصارمة، الفلاح البسيط الفحل، الخ. ولكن هذا التنميط القادم من عيون البطل يفضح مآساته هو أيضا، هو العاجز عن الابطاء قليلا والنضج والتحول، الفاشل في الانتحار مراهقا والمقبل عليه اكتئابا وهو كهل.
يمر شهاب الشمندر من عوالم جدته والخادمات والخالات وبنات الجيران لعوالم الصديقات والعشيقات والموديلات ولكنه تقريبا عاجز عن الحب بمعنى أوسع بكثير من الافتتان والولع المادي. ينزلق على أسطح النساء في حياته، يدخلهن ويخرج منهن دون ان يترك قطعة منه او يأخذ جزءا منهن معه. يعدو شهاب حتي يعاقبه الزمن باكتئاب حاد وفقدان للقدرة على التواصل، حتى مع أبنائه الثلاثة: محب الشاب البعيد عن ابيه نفسيا ونجيب المولود ميتا بعد ان ضغط شهاب من اجل اجهاضه على كل حال أو اينانا التي لا يعرف انها ابنته سوى وهي شابة عندما تبلغه أمها زوفين بالحقيقة بعد نحو ٣٠ عاما من مولدها. شهاب الشمندر لا يشبع ولا ينضج ولا يتطور رغم مرور كل هؤلاء البشر/النساء في حياته، ولذا فعليه ان يعيد النظر في ما تعلمه عن التاريخ وان ينظر للمستقبل (حتى لو كان الموت) بصورة مختلفة، وهو ما تفعله الرواية، بقسوة أحيانا. ويجعلها هذا كله تستحق القراءة، على الأقل لنعرف كيف ينظر جيل عاش انقاض أحلام وتخيلات عظمي الى هذا الدمار وكيف تنمو رغبته، و “تفور”، وتضمحل.