نُشر في درج يوم ٢٠ اكتوبر ٢٠١٩
كان الرئيس دونالد ترامب مدفوعاً بوعود انتخابية قطعها على نفسه عندما قرر سحب ألف جندي أميركي من منطقة الجزيرة في شمال شرقي سوريا، وتركها مستباحة لغزو تركي يستهدف القوات الكردية هناك في مستهل تشرين الأول/ أكتوبر. ولكن الرئيس الأميركي الفظ كان أيضاً يعبر عن الوعود ذاتها، عندما قرر إرسال 3000 جندي أميركي إلى السعودية، في الشهر ذاته!
ولدى ترامب وفريق أنصاره متنافر الألوان، نظرة معينة وإن كانت خشنة ومحيّرة تجاه الدور الأميركي المنكمش في نظام الأن الكوني ومؤسساته، ولذا قد يظهر لنا أن مواقفه صادمة داخل حلف شمال الأطلسي والأمم المتحدة وحيال قواعد القانون الدولي وفي ما يتعلق بتجارة السلاح وسياسات مناهضة الإرهاب والهجرة غير المنتظمة. هذا الفريق ومعظمه من اليمين السياسي يصطرع بشدة مع فريق معظمه من اليسار السياسي، والذي له بدوره وجهة نظر مركبة في هذه المسائل وتلك المؤسسات. وفي معظم الأعوام الأربعة الماضية، بات هذا الفريق الثاني في موقف دفاعي كما تشير نتائج الانتخابات في معظم بلدان العالم الصناعي الغربي، وإن كان العالم الديموقراطي كله يمر في مرحلة انتقال وعرة.
أطراف الصراع الجاري في واشنطن حول الدور الأميركي في أمن الكرة الأرضية ليسوا فقط من رجال السياسة السائرين في أروقة الأحزاب والكونغرس والبيت الأبيض ووزارتي الخارجية والدفاع، بل منهم أيضاً أعضاء مجالس إدارات شركات صناعة سلاح ضخمة، مثل لوكهيد مارتين وبوينغ وريثيون ومعامل ومراكز أبحاث وسياسات معنية بالأمن والسلاح ورجال مال ومحافظ استثمار ضخمة في بورصات نيويورك ولندن وطوكيو وشركات أمن خاصة مثل بلاكووتر. ولكل هؤلاء الأطراف ارتباطات مع منظمات دولية وشركات عابرة للقومية وأجهزة اعلام وكتاب وصحافيين وجماعات ضغط (تمثل حكومات أو منظمات أهلية دولية، تدافع عن حقوق الانسان أو عن ولي العهد محمد بن سلمان).
ويتفق أطراف الصراع من اليمين واليسار وما بينهما على أن هناك مشكلات عدة في سياسات الولايات المتحدة الأمنية التي تناوبت عليها إدارات ديموقراطية وجمهورية منذ هجمات 11 أيلول/ سبتمبر. وفي ظل هذه السياسات في الـ18 سنة الأخيرة، أنفقت الولايات المتحدة 4.6 تريليون دولار على الحروب خارج البلاد بمعدل 250 مليار دولار سنوياً على الأقل. في تلك الفترة خاضت الولايات المتحدة حربين ما زالتا قائمتين بأشكال مختلفة في أفغانستان والعراق، وشنت غارات وأعمال عسكرية متنوعة في اليمن وسوريا والصومال وغيرها. هذا الإنفاق يعادل إجمالي الناتج المحلي لكل دول العالم بعد استثناء الصين والولايات المتحدة ذاتها!
وعلى رغم هذه التريليونات فقد أخفقت تلك التدخلات في تحقيق الأهداف المعلنة. عناصر طالبان ما زالوا يسيطرون على معظم أفغانستان، وصارت إيران الدولة الأكثر حظوة في العراق (وهي خصم لدود لواشنطن)، بينما أصبحت طهران وموسكو تتحكمان لحد كبير في دمشق، وبات اليمن مصدر تهديد لدول حليفة وملاذاً لجماعات معادية للمصالح الأميركية أو متحالفة مع خصوم واشنطن. “الفشل” هو أخف وصف لتقويم نتائج هذه العمليات العسكرية التريليونية!
ويبدأ الاختلاف عندما يحاول المعنيون بالسياسات في واشنطن وحولها بل وخارج الولايات المتحدة، إعادة رسم دور أميركا في نظام الأمن الدولي من أجل تجنب هذا الفشل.
يتفق أطراف الصراع من اليمين واليسار وما بينهما على أن هناك مشكلات عدة في سياسات الولايات المتحدة الأمنية التي تناوبت عليها إدارات ديموقراطية وجمهورية منذ هجمات 11 أيلول/ سبتمبر.
ومع قدر من الاختزال والتعسف، يمكن تجميع مواقف الأطراف الأميركية المعنية بهذه المسألة في فريقين كبيرين، الأول فيهما مسيطر في الوقت الراهن:
الفريق الأول يرى عموماً أن هناك مصالح مادية تستدعي استمرار القواعد العسكرية الأميركية خارج البلاد ونشر بعض القوات في أراضي دول معينة (السعودية وسوريا والعراق وأفغانستان على سبيل المثال)، واستعمال سلاح الجو وحاملات الطائرات في شتى المحيطات والبحار وبخاصة المحيط الهادئ وبحر الصين والخليج العربي والبحر المتوسط، لردع الصين وكوريا الشمالية وإيران والحفاظ على ممرات الملاحة مفتوحة ودعم حلف شمال الأطلسي وتنفيذ اتفاقات عسكرية مع اليابان وتايوان وإسرائيل.
وهناك فصائل عدة داخل هذا الفريق، يرى أبرزها ويتزعمه الرئيس ترامب، أن الوقت حان لتدفع الحكومات الأخرى المعنية ثمن الخدمات الأميركية ونصيباً أكبر في المؤسسات العسكرية المشتركة. وتخصص أميركا 3.6 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي للإنفاق العسكري السنوي (نحو 750 مليار دولار هذا العام)، بينما لا تزيد هذه النسبة في المتوسط عن 1.5 في المئة في أوروبا، وذلك أمر صرح ترامب بشأنه مراراً داخل اجتماعات لحلف شمال الأطلسي وفي مؤتمرات صحافية. وطالب بأن تتضاعف النسبة الأوروبية فوراً، وأن تدفع دول الخليج ثمناً أكبر للحماية. ومن ناحية أخرى، يريد سمسار العقارات الأشهر وساكن البيت الأبيض تقليص الدور الأميركي في نزاعات لا يرى لها فائدة مباشرة للمصالح الأميركية كما يراها – سوريا على سبيل المثال. ومن هذا المنطلق يبرر ترامب إرسال جنود للسعودية بأن المملكة الغنية بالنفط وعدت بشراء ما قيمته 110 مليارات دولار من شركات السلاح الأميركية، وأنها ستدفع تكاليف نشر أي قوات أميركية في أراضيها لحمايتها من “التهديدات الإيرانية”.
ومن ناحية أخرى، يرى الفريق الثاني – ومن بين ممثليه المرشح الرئاسي الديموقراطي بيرني ساندرز – أن المصالح الأميركية تقتضي الضرب بقوة وحزم وقت الضرورة فقط مع عدم نشر أي قوات دائمة، والالتزام بدعم حلف الأطلسي مع تقليص دوره والعمل دائماً تحت مظلة مجلس الأمن، للحفاظ على ما تبقى من قواعد القانون الدولي. ويرى جناح مهيمن في هذا الفريق، كان الرئيس السابق باراك أوباما أحد داعميه، أنه يجب قصر المصالح الأميركية على المصالح المادية المباشرة، مع بناء تحالفات دولية وتحاشي الاندفاع في أعمال عسكرية أو وضع مقاربات امنية بسبب القيم الأميركية من قبيل نشر الديموقراطية وحقوق الانسان.
ويجادل بعض أعضاء الفريق الثاني أنه يجب إيقاف الحروب الأميركية المتعددة وتخفيض الموازنة العسكرية بنحو النصف (الميزانية السنوية المطلوبة لعام 2020 ستتعدى 718 مليار دولار). وعلى سبيل المثال، يقترح هذا الجناح وقف الأعمال العسكرية الخارجية التي تكلف 66 مليار دولار سنوياً وإغلاق القواعد العسكرية الأميركية في الخارج وتكلف 90 مليار دولار سنوياً (هناك 800 قاعدة ومنشاة في نحو 90 دولة) وإيقاف 14 مليار دولار معونات عسكرية سنوية لبضع دول، وتحويل كل هذا لمشاريع الرعاية الصحية والتعليم وتخفيف الضرائب في داخل البلاد.
ويرجع الاختلاف الرئيسي بين هذين الفريقين إلى دور تلك الحروب وأهميتها، والقواعد في فرض خيارات السياسة الخارجية الأميركية على الصعيد العالمي. وتتميز العلاقات الأميركية الدولية بالتعقيد الشديد حيال بلدان مثل روسيا والصين واليابان ودول كبرى في أوروبا وأميركا اللاتينية – بعض هذه الدول حلفاء وخصوم في الوقت نفسه، بسبب علاقات تجارية واقتصادية ومالية وأمنية متداخلة وذات تاريخ مضطرب كما هي الحال في الالتزامات الدفاعية حيال اليابان وكوريا الجنوبية. ولا تخلو تلك الخيارات الصعبة أحياناً من اعتبارات محلية مثل الالتزامات الأمنية تجاه إسرائيل، وهو أمر في النهاية متعلق بدعم عميق في الكونغرس الأميركي للنظام الصهيوني أو اعتبارات تافهة مغرقة في النزاعات السياسية المحلية، مثل تهديد ترامب رئيس أوكرانيا بتعليق مساعدات عسكرية، ما لم تلاحق الحكومة الأوكرانية ابن خصمه السياسي جو بايدن، بسبب مزاعم فساد في أعمال قام بها في ذلك البلد. وتحصل أوكرانيا على نحو 300 مليون دولار مساعدات عسكرية سنوية من واشنطن.
هناك أيضاً أهمية صناعة السلاح الأميركي التي تذهب معظم مبيعاتها للجيش الأميركي، وبالتالي فهي مستفيدة أولى من عملياته وقواعده في الخارج.
هناك أيضاً أهمية صناعة السلاح الأميركي التي تذهب معظم مبيعاتها للجيش الأميركي، وبالتالي فهي مستفيدة أولى من عملياته وقواعده في الخارج. وتتصدر 5 شركات أميركية قائمة أكبر 10 شركات مصنعة للسلاح، إذ تنتج 70 في المئة من السلاح في العالم بمبيعات وصلت إلى نحو 140 مليار دولار عام 2017. وتذهب معظم مبيعات الشركات الأميركية للجيش الأميركي (فقط باعت بنحو 42 مليار دولار لدول أجنبية في العام ذاته). هذه مصالح ضخمة لرجال المال والأعمال وتتقاسم أرباحها حفنة صغيرة من كبار المستثمرين الماليين في هذه الشركات التي توظف شركات ضغط ومحاماة هائلة في واشنطن.
صار الفيل رمزاً شعبياً للحزب الجمهوري والحمار للحزب الديموقراطي بفضل الفنان توماس ناست في مجلة هاربر الأميركية (1862 – 1886)، وذلك في رسوم صورت عالم السياسة الأميركية على أنه سيرك، وظهر السياسيون حميراً يتخفى بعضها في جلد أسود، وثعالب ماكرة مختالة، وضباع خبيثة، وأفيال ضخمة ومذعورة. وصار الفيل والحمار رمزين ثابتين ومهمين في السياسة الأميركية منذ ذلك الوقت، ولكن السيرك والعروض لم تكن مضطربة بهذا القدر منذ السبعينات ونهاية حرب فيتنام.
نحن الآن في فترة انتقال للنظام الأمني العالمي، تتبدل فيه تحالفات زئبقية وتختلط مواقف الأفيال والحمير في إدارة السياسة الخارجية والأمنية الأميركية ذات الآثار المدمرة على الحيوانات الصغيرة الدائخة في هذا السيرك الكبير. الأفيال تتدافع في ذعر ويتعين علينا نحن الحذرين من الحيوانات الأضعف والأقل حظاً في هذا العالم (في سوريا وغيرها من بلدان وجماعات)، تفادي الدهس، وألا نتعاون مع الضباع ونتقبل خيبة الأمل عندما لا يساعدنا الحمير أو الثعالب، وأن نفكر لأنفسنا بأساليب للنجاة.