نُشر في موقع درج يوم ١٢ فبراير ٢٠٢٠
انضم السودان هذا الشهر إلى الدول العربية المهرولة نحو البوابة الإسرائيلية، التي تعد بحليف قوي عسكرياً وسياسياً واقتصادياً لدول وأنظمة وشعوب، باتت الهزيمة والعنف والانهيار والفقر عناوين حياتها اليومية. الانتقادات المنهالة من سودانيين وعرب مستنكرين معتادة، ولكنها أقل حدة، بينما الدعم والتأييد لم يعودا خجولين ولا يقتصران على أفراد معدودين. التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان في 3 شباط/ فبراير في عنتيبي في أوغندا – حيث يهيمن الزعيم البرغماتي الديكتاتور الرئيس يوري موسيفيني، وعراب هذه المقابلة، وحيث قُتل يوني، شقيق نتانياهو الأكبر عام 1976، في عملية إنقاذ ناجحة لركاب طائرة خطفتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
وفضح هذا اللقاء هشاشة الاتفاق بين الجيش والقوى السياسية في السودان العام الماضي، من أجل حكم البلاد بعد إسقاط نظام الرئيس السابق الجنرال عمر البشير. وفقاً للاتفاق، ليس من حق البرهان اتخاذ قرارات في السياسة الخارجية بمفرده، ولكنه فعل بل وقال إنه أبلغ الوزارة والتحالف السياسي الأهم في السودان وهو “قوى الحرية والتغيير”، قبل اجتماعه مع نتانياهو.
وقال البرهان بعد يومين من اللقاء إن الهدف من اجتماعه كان رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب وإنقاذ اقتصاد بلاده من تدهور متسارع. ويعتقد سودانيون أن رفع اسم السودان من هذه القائمة سيفعّل قرار الرئيس السابق باراك أوباما برفع العقوبات، ويفتح الباب أمام استثمارات أجنبية ودعم مالي وشطب لبعض القروض والتعويضات المالية الضخمة المحكوم بها ضد الخرطوم. وقال طبيب سوداني في الخرطوم: “هناك فوائد اقتصادية محققة للسودان من التطبيع مع إسرائيل”.
وانتقد المحلل السوداني مجدي الجزولي هذا الموقف قائلاً إن “البرهان يدعي أن العنتريات القديمة والشعارات الخاوية لن توفر القمح أو الوقود، كأن سلامه مع الكيان الصهيوني سيفعل… وأن طرقه باب تل أبيب سيفتح الطريق إلى رضا واشنطن”.
ويتفق الجميع على أن السودان في موقف اقتصادي حرج للغاية، فديون البلاد الخارجية 60 مليار دولار، ومن المتوقع عقد اجتماع مع الدائنين خلال أسابيع، للنظر في العفو عن جزء منها أو جدولة المدفوعات، بينما تتعدى نسبة التضخم السنوية حالياً 50 في المئة، وسعر صرف الجنية السوداني في السوق السوداء وصل إلى 105 جنيهات مقابل الدولار الواحد، أو نحو ضعف سعر الصرف الرسمي. وانكمش الاقتصاد السوداني بنحو 2.4 في المئة عام 2019، ويتوقع أن يواصل انكماشه هذا العام. وتنجم عن هذا الوضع معدلات بطالة صارخة ونقص مريع في الاحتياجات الأساسية المستوردة واعتماد متزايد على تحويلات ملايين السودانيين العاملين في الخارج لعائلاتهم في السودان.
انضم السودان هذا الشهر إلى الدول العربية المهرولة نحو البوابة الإسرائيلية.
وقال الطبيب السوداني، “إذا كان هذا الاجتماع والتطبيع مع إسرائيل مخرج السودان للعودة إلى المجتمع الدولي فلا مانع لدي، ليس عندنا دولارات لشراء أدوية أساسية لعملنا والحكومة على وشك رفع الدعم عن الوقود واقتصادنا منهار. طائراتنا خربة وشركات ايرباص وبوينغ لا تتعامل معنا ولم يعد لدينا سوى الصين وروسيا. نحن في مأزق سياسي واقتصادي وعلينا مليارات الدولارات من الديون ولا حلول واضحة لمشكلاتنا المعيشية اليومية. معارضو خطوة البرهان يتحدثون عن دور قديم للسودان وعن قضية عربية… فماذا عن القضية السودانية؟”.
في المقابل، يرى خبير سوداني في الشأن الاقتصادي أن الجدل الدائر حول الفوائد المرجوة من هذا الاجتماع جدل عقيم. واختصر موقفه بعد شرح طويل للمشكلات الهيكلية في اقتصاد السودان بأن رفع اسم السودان على قائمة الإرهاب والتطبيع مع إسرائيل ستكون له فائدة محتملة للجنرالات “ولكن من دون أي فوائد للسودان”.
وقال الخبير: “السودان لا يصدر إلى إسرائيل ولن نحصل منهم على شيء يذكر… مؤيدو خطوة البرهان يتوهمون أن التطبيع مع إسرائيل هو تطبيع مع أميركا وهذا ليس صحيحاً… الولايات المتحدة رفعت العقوبات ولكن الشركات الخاصة ورؤوس الأموال الأجنبية المطلوبة لن تأتي، كما لن تتمكن الولايات المتحدة من شطب ديون مستحقة لمؤسسات التمويل الدولية وقائمة طويلة من الدائنين”.
وأضاف: “مع وجود اسم السودان على قائمة الدول المتهمة بالإرهاب، فإن رأس المال الأجنبي يخشى الدخول بقوة في السودان ولكن حتى لو نجحت إسرائيل ووساطتها في شطب اسمنا من هذه القائمة، ستظل هناك أسباب هيكلية أهم، لتبقى رؤوس الاموال الأجنبية بعيداً من السودان وهي غياب الاستقرار السياسي والاقتصادي والتضخم الجامح. في هذه الظروف، الاستثمار الوحيد سيكون في الصناعات الاستخراجية في الذهب والنفط وهي استثمارات لا تخلق فرص عمل أو مطاعم الوجبات السريعة مثل كنتاكي، فرايد تشيكين، وبيتزا هت، التي افتتحت فروعاً لها في الخرطوم”.
ويعاني السودان من عجز ضخم ومزمن في موازنة حكومته وتمول الحكومة العجز، من طريق طباعة مزيد من النقود قدرها خبير في العام الأخير بما يعادل قيمة 200 مليون دولار في المتوسط شهرياً بالجنيه السوداني، ما يرفع نسبة التضخم يومياً ويدفع رؤوس الأموال المحلية للهرب ويخلق مناخاً غير مناسب لأي استثمارات أجنبية حقيقية “فالمستثمر يعجز عن حساب نفقاته الحقيقية بسبب التضخم وانهيار الجنيه السوداني المستمر، لذلك لن يأتي الى هنا لأنه ببساطة لن يتمكن من وضع ميزانية تقديرية وحساب أسعار منتجاته بطريقة مفيدة”.
قال البرهان بعد يومين من اللقاء إن الهدف من اجتماعه كان رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب وإنقاذ اقتصاد بلاده من تدهور متسارع.
وواجه عدد ليس بالقليل من أغنياء السودان هذا التحدي من طريق تهريب رؤوس أموالهم وشراء عقارات في مصر وبلدان عربية أخرى وبخاصة بعد 2013، عندما تفاقم أثر انقطاع مداخيل النفط على حكومة البشير، فالنفط كان يشكل 90 في المئة من إيرادات الحكومة.
والأنكى أنه بعد طباعة النقود والاستدانة، فإن ميزانية السودان العسكرية والأمنية تلتهم قرابة 70 في المئة من الإنفاق السوداني الحكومي، بينما أدت الحروب والاضطرابات الأمنية إلى خسارة محققة للبلاد من مصادر دخل أخرى ضخمة من ثروتها الحيوانية في دارفور وكردفان وجبال النوبة، وهي مناطق تمزقها الحرب الأهلية وفشل الحلول العسكرية والسياسية، بسبب عجز حكومة الخرطوم التي يسيطر عليها العسكر معظم الوقت منذ 1970.
ويأمل سودانيون بأن يؤدي التقارب السوداني- الأميركي المأمول من طريق تل أبيب، إلى التخلص من تعويضات بمليارات الدولارات قضت بها محاكم أميركية ضد الحكومة السودانية بسبب تورطها في دعم تنظيم القاعدة، في تفجير السفارتين الأميركيتين في دار السلام ونيروبي عام 1998. وقضت محكمة استئناف أميركية وأيدتها المحكمة العليا بتعويضات تقارب 4 مليارات دولار لعائلات وضحايا تفجير الحادث الذي قتل 224 شخصاً وجرح المئات معظمهم غير أميركيين.
“البرهان يدعي أن العنتريات القديمة والشعارات الخاوية لن توفر القمح أو الوقود، كأن سلامه مع الكيان الصهيوني سيفعل…”
ولكن الإدارة الأميركية لا تستطيع التدخل وتعليق حكم قضائي وإيقاف قرار صادر من أعلى محكمة في البلاد. وكان هذا وراء فشل مساعي رئيس الوزراء السوداني عبد الله الحمدوك ووزيرة الخارجية أسماء عبدالله في زيارات إلى واشنطن في الشهرين الأخيرين. حاول الحمدوك وعبدالله التخلص من دفع هذه التعويضات ورفع اسم بلادهم من قائمة الإرهاب لكن مسؤولين أميركيين كباراً ربطوا بوضوح بين وجوب دفع هذه التعويضات ورفع اسم السودان من القائمة. وإذا عجز السودان عن دفع هذه الأموال سيكون عرضة لتجميد أي أصول أو ممتلكات تعود إلى حكومته خارج البلاد.
هناك حديث طويل ولغط لا يستند إلى حقائق واضحة حول اتفاق نتانياهو والبرهان على السماح للطائرات المدنية والتجارية الإسرائيلية من التحليق فوق المجال الجوي السوداني، وهكذا توفر ساعات من استهلاك الوقود في رحلات الطيران الآتية إليها من أميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا، بينما يتقاضى السودان رسوماً قد تصل إلى الألف دولار لكل رحلة عابرة. وأشار معتصم كداكي وهو سوداني يقول إنه يعيش في إسرائيل كطالب لجوء، إلى أن إسرائيل ستوفر ملايين الدولارات بسبب اختصار ساعات الطيران، وأن الباب سيُفتح أمام مشاريع مشتركة مع إثيوبيا واريتريا بتمويل إماراتي وسعودي في مجالات المياه والزراعة. بيد أن هذه وعود في السماء ولا دليل صلباً على أنها ستتحقق.
ولكن إذا لم يكن السودان ليستفيد اقتصادياً بأي شكل واضح من التطبيع المقبل مع إسرائيل، ماذا سيستفيد الجنرالات؟ في المقال المقبل نحاول الإجابة.
عمرو أبوثُريا
ربما يعتبر هذا المقال الجيد أول تحليل أجده تعليقا علي مفاجأة الچنرال البرهان بمقابلتم رئيس الوزراء الإسرائيلي ، فقد توقف كتابنا عن التعرض لهذه المفاجأة، عرض الكاتب الوضع السيء في السودان ووصلنا لنتيجة أنه لا فائدة ترتجي من اللقاء وأيضا تصويره لهشاشة الأتفاق بين المجلس العسكري وقوي الحرية والتغيير، أرجو أتمكن من قراءة المقال القادم لأعرف أي فائدة ستعود علي الجنرالات؟
خالد منصور
شكرا واتمنى ان يعجبك الجزء الثاني ايضا.