نُشر في موقع درج بتاريخ ١٩ سبتمبر ٢٠١٩
للديموقراطية ثمن حتى لو كانت منقوصة عرجاء لا تجعل الجميع سواسية أمام القانون، كما هي الحال في إسرائيل التي أنفقت فيها الحكومة ما قد يصل إلى مليار دولار عام 2019، لتنظيم انتخابات عامة للكنيست (البرلمان) مرتين، كانت النتائج فيهما متقاربة بالنسبة إلى أكبر الأحزاب.
وثمن ديموقراطية إسرائيل ليس مالاً فحسب. على رغم ادعائها أنها دولة علمانية، باتت الساحة السياسية في إسرائيل واقعة تحت نفوذ طاغ ومتنام لأحزاب اليمين الديني اليهودي المتطرف، على رغم أن نسبة الأورثوذكس المتشددين لا تزيد عن 12 في المئة من الناخبين. وتواصل الدولة التمييز الواضح ضد أكثر من 20 في المئة، من المواطنين من أبناء واحفاد الفلسطينيين الذين بقوا على أراضيهم واكتسبوا جنسية الدولة المولودة عام 1948، والتي تنظر إليها نخبتها الحاكمة على أنها دولة لليهود (أكثر من 80 في المئة من هؤلاء الفلسطينيين مسلمون، والآخرون مسيحيون ودروز). وفي الوقت نفسه، يحصل اليهود الأرثوذكس المتطرفون على إعفاء لمعظمهم من الخدمة العسكرية الإجبارية، ويحصلون على مخصصات مالية وقسم من موازنات وخدمات الدولة.
هذا التمييز (الإيجابي لمصلحة اليمين الديني والسلبي ضد الفلسطينيين) هو قلب حملة رئيس الوزراء الداهية بنيامين نتانياهو من أجل ضمان تأييد حزبي “شاس” و”يهوديت توراة” (وعدهما بتكريس امتيازاتهما في القانون)، وإضعاف الكتلة التصويتية للناخبين الفلسطينيين (وصفهم بأنهم أكبر خطر على إسرائيل وحاول تركيب كاميرات مراقبة في اللجان ذات الغالبية الفلسطينية من أجل تخويف الناخبين). وليس هذا مجرد عنصرية عمياء من جانب نتانياهو، بل هو استغلال لواقع عنصري (على أساس ديني وعرقي) يتعمق في المجتمع الإسرائيلي الذي يتفق يمينه ويساره، على استمرار الاحتلال والحصار الإسرائيلي لنحو خمسة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وغزة، ولا يختلفان كثيراً في نهاية المطاف حول سبل التعامل مع الفلسطينيين حاملي الجنسية الاسرائيلية.
المجتمع الإسرائيلي اليهودي يتجه يميناً بوضوح. ونال اليمين عموماً 96 مقعداً من مقاعد الكنيست الـ120، بينما حصل اليسار على 11 مقعداً فقط، وذهب 13 مقعداً إلى ائتلاف الأحزاب الممثلة لمصالح وتطلعات فلسطينيي 1948.
ومن جولة نيسان/ أبريل حتى جولة أيلول/ سبتمبر، زادت مقاعد اليمين الديني مقعداً، إذ حصل “شاس” الذي يمثل اليهود الشرقيين (سفارديم) على تسعة مقاعد واحتفظ “يهوديت توراة” الذي يمثل اليهود الغربيين (أشكيناز) بمقاعده الثمانية، بينما حصل حزب “اليمين الجديد” القومي وزعيمته ايليت شاكيد، التي تؤيد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية بقوة، على 7 مقاعد.
وحققت القائمة الموحدة وأحزابها الأربعة (ذات الغالبية الساحقة من فلسطيني 1948 بتوجهات سياسية متنوعة) انتصاراً كبيراً إذ حازت 13 مقعداً (بزيادة ثلاثة مقاعد عن انتخابات نيسان، ولكن عدد المقاعد ذاته الذي حصدته في انتخابات 2015). وبالتالي يمكن زعيم القائمة أيمن عودة أن يصبح ممثل المعارضة في الكنيست، كونه يقود ثالث أكبر كتلة تصويتية إذا تشكلت حكومة وحدة وطنية بين حزبي “الليكود” و”أزرق-أبيض”، وهو سيناريو لم يعد مستبعداً.
توزيع مقاعد الكنيست على التيارات الأساسية الرئيسية:
الكتلة اليمينية القومية/ الدينية (الليكود وشاس ويهوديت توراة واليمين الجديد) 55 مقعداً
يمين الوسط (ازرق- أبيض) 33 مقعداً
القائمة الموحدة للفلسطينيين 13 مقعداً
يمين قومي علماني (إسرائيل بيتنا) 8 مقاعد
اليسار (الاتحاد الديموقراطي والعمل) 11 مقعداً
لم يخض الحزبان الكبيران، “الليكود” و”أزرق أبيض” معركة حول السياسات ولكن حول الشخصيات، وحصدا مقاعد أقل بقليل من انتخابات نيسان الماضي- 31 مقعداً لليكود (بانخفاض 4 مقاعد) و33 مقعداً للحزب الآ،خر الذي يشير اسمه الى لوني العلم الإسرائيلي (أقل بمقعدين) وفقاً للنتائج شبه النهائية. ويتفق الحزبان في القضايا التي تخص أمن إسرائيل (ضد إيران و”حزب الله” و”حماس” ومع القيادة السياسية الحالية للسعودية والإمارات ومصر)، وضد دولة فلسطينية حقيقية ومع ضم غور الأردن والمستوطنات الإسرائيلية في الضفة لتخضع للسيادة الإسرائيلية. ولا خلاف كبيراً بينهما في القضايا الاقتصادية.
الصراع بين الحزبين هو صراع بين بنيامين نتانياهو وبيني جانتس، الذي كان رئيساً لأركان الجيش الإسرائيلي حتى عام 2015، وقاد آخر عمليات القصف الإسرائيلي المدمرة ضد قطاع غزة في 2014. والآن يقود حزباً ائتلافياً من كتل سياسية أصغر، لم يظهر حقاً للوجود سوى بداية هذا العام. جانتس إذاً وافد جديد إلى السياسة، هادئ ومتواضع بالنسبة إلى نتنياهو الصاخب المعتد بذاته والمتهم في قضايا فساد وتربح، من المقرر أن يبدأ نظرها في جلسات استماع في أوائل تشرين الأول/ أكتوبر.
يقف “الليكود” وحلفاؤه من أحزاب اليمين الديني والقومي عند 55 مقعداً، ولتشكيل ائتلاف تحتاج هذه الكتلة إلى دعم “أفيغدور ليبرمان” زعيم حزب “إسرائيل بيتنا” ومقاعده الثمانية. ليبرمان، صانع الملوك، يريد السيناريو الثالث وهو استبعاد الحزبين الدينيين وتشكيل حكومة وحدة وطنية تضم الحزبين الكبيرين (بقيادة جانتس ونتانياهو) وينضم لها حزبه. ولكن إذا تحالف “الليكود” و”أزرق أبيض”، فلا حاجة لهما بحارس الملاهي الليلية السابق!
بنيامين نتانياهو وبيني جانتس
وبعد هكذا نتائج سيأتي دور رئيس الدولة روفين ريفلين الذي يحق له أن يستدعي إما نتانياهو أو جانتس من أجل تكليفه بمحاولة تشكيل حكومة ائتلافية تسيطر على 61 مقعداً في الكنيست على الأقل (50 في المئة + مقعد واحد). في الأغلب سينتظر ريفلين قليلاً ريثما تجرى مفاوضات محمومة بين الأحزاب المختلفة قبل أن يقرر من سيدعو أولاً إلى تلك المهمة.
ولم يضيّع السياسي المتلوّن المحنك نتانياهو وقتاً، إذ دعا جانتس إلى العمل معه قائلاً: “لم يعد هناك خيار سوى تشكيل حكومة وحدة وطنية عريضة… واليوم يا “بيني” تتوقع الأمة منا، نحن الإثنين، أن نقبل المسؤولية ونعمل سوياً.”
فهل يخدم نتانياهو في منصب رئيس الوزراء لمدة خامسة من طريق ائتلاف مع ليبرمان أو حكومة وحدة وطنية مع جانتس؟ أم يحقق جانتس مفاجأة سياسية فيتحالف مع “الليكود” بعد طرد نتنياهو (احتمال غير مستبعد)؟ أم هناك احتمالات أخرى؟
لو كان علي التوقع لراهنت على أن إسرائيل ستعقد ثالث انتخابات برلمانية لها في أقل من عام، وربما تكون هذه الجولات الانتخابات المتتالية والمكلفة، ثمن خروج نتانياهو النهائي من الساحة وهو أكثر من خدم في منصب رئيس وزراء إسرائيل (13 عاماً متقطعة منذ 1996). وفي كل الأحوال، من الواضح أن إسرائيل، صاحبة الديموقراطية العنصرية المنقوصة، ستبقى في الأغلب تحت سيطرة أطياف اليمين العاجز، وربما غير الراغب أيضاً، في إيجاد حل حقيقي مستدام لمأساة الاحتلال والحصار والتمييز ضد 7 ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وغزة ومن يعيشون داخل “حدود” البلاد الزئبقية.