المدونة

(نُشرت هذه القصة بالتزامن على موقعي درج ومدي مصر)

تحقق الشعار الذي رفعه المتظاهرون السودانيون السلميون وهو أن يسقط الرئيس بشير و”بس”. كان #يسقط_بس شعارًا عبقريًا لأنه لا يذهب أبعد من مطلب إسقاط رئيس تفاقم فشله في إدارة البلاد اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. كان الشعار ذكي سياسياً لأنه أغلق الباب أمام عددٍ من ردود الفعل الاستباقية التي صارت حكمة شائعة في بلدان عربية عدة: وماذا بعد أن يسقط؟ وما هو البديل؟ ومن هو الجاهز للحكم؟ ولكن ها قد سقط آخر الحكام، من مديدي الخدمة في المنطقة العربية ليلحق ببوتفليقة وبن علي والقذافي ومبارك وصالح. ربما لا أحد جاهز للحكم في السودان سوى نسخ مهترئة من البشير في ضوء التصحير السياسي المستمر منذ توليه الحكم بالتعاون مع الإسلاميين في عام ١٩٨٩. ولهذا لا يجب أن يكون مفاجئا لأي متابع مهتم، أن يأتي الحل المهتز من داخل نفس المؤسسات التي فشلت في إدارة البلاد، بل وفشلت في أداء مهامها الرئيسية الموكلة اليها وهي الامن والدفاع عن وحدة التراب الوطني. وربما هذه هي الطريقة التي يجب ان نفهم بها اعلان وزير الدفاع عوض بن عوف إعفاء الرئيس عمر حسن البشير (٧٥ عاما) من مهامه، وفرض حالة طوارئ وحظر تجول، وحل كل المؤسسات التشريعية وتسريح كل رؤوس السلطة التنفيذية عدا الاجهزة الأمنية.

هل هذا انقلاب على البشير؟ أم انقلاب على الانتفاضة الشعبية المشتعلة منذ منتصف ديسمبر؟ أم أنه في المطاف الأخير إعادة ترتيب لممثلي المؤسسات الأمنية القابضة على البلاد دون المساس بحق هذه المؤسسات في الحكم والتحكم؟

حتى الآن يبدو سيناريو إعادة الترتيب هو الأقرب لطموحات بن عوف ومن حوله. ووفقا هذا السيناريو قد يحصل البشير على خروج آمن ومعه رئيس حزب المؤتمر الوطني الحاكم أحمد هارون. والاثنان مطلوبان أمام المحكمة الجنائية الدولية بسبب جرائم حرب في دارفور، قُتل بسببها ما يزيد عن ٣٠٠ الف شخص. ويطيح هذا السيناريو أيضا بعدد من أعضاء شبكة المتنفذين في السلطة ومنهم وزير الدفاع السابق عبد الرحيم حسين ونواب الرئيس السابقين بكري حسن صالح وعلى عثمان طه ولكنه، في نفس الوقت، لا يهز المؤسسات الأمنية المهيمنة على البلاد أو يطعن في أهلية القوات المسلحة لحكم البلاد.

وأخلى بن عوف، وهو أيضا النائب الأول للرئيس البشير، الاجهزة الأمنية كلها من مسؤولية مقتل عشرات المتظاهرين بل ومن مسؤوليتها عن التدهور الرهيب المستمر في أنحاء السودان على مدى عقود. وقال الرجل الذي تولى وزارة الدفاع في عام ٢٠١٥ ان “القوات المسلحة وقوات الشرطة وقوات جهاز الأمن والمخابرات وقوات الدعم السريع (كانت) تتابع ما يجري في مؤسسات الحكم في الدولة من سوء الإدارة وفساد النظم وغياب العدل وانسداد الأفق أمام الشعب وخاصة الشباب … وعاش أفراد تلك المنظومة الأمنية ما عاشه فقراء الشعب وعامته.” واعتذر الرجل بالنيابة عن اللجنة الأمنية العليا وتضم ممثلين عن هذه الاجهزة الأربعة وتدير البلاد “عما وقع من خسائر في الانفس ونترحم على الشهداء – من المواطنين ومن الاجهزة الأمنية”. ولكنه أكد على ان “كل منسوبيها حرصوا كل الحرص على إدارة الازمة بمهنية وكفاءة رغم بعض السقطات.” ولمّح إلى أن الاجهزة الأمنية رفضت مطالب من النظام الذي كان يصر “على المعالجة الأمنية دون غيرها… رغم اقتناع الكل بتعذر ذلك واستحالته لأنه كان سيحدث خسائر كبيرة.”

رفض بن عوف، في ضوء سيناريو التخلص من الافراد وحماية المؤسسات، تحميل الاجهزة الأمنية التي سيّرت البلاد فعليا منذ ثلاثين عاما أي مسؤولية، بل وادخل قوات الدعم السريع مكوناً رابعاً مستقلاً في الشبكة الحاكمة الى جوار جهاز الامن والمخابرات وقوات الشرطة وشريكهم الرئيس القوات المسلحة، تلك القوات التي خسرت جنوب البلاد في حرب أهلية بشعة أدت لاستقلال جنوب السودان، ثم عجزت عن تدخل امني ناجع في غرب البلاد في دارفور وفي وسطها في ولايات كردفان والنيل الأزرق وفي مناطق متعددة في شرقها فصارت البلاد ممزقة على كافة الأصعدة في العقود الثلاثة الماضية.

رفض التجمع السوداني للمهنيين، وهو الجهة التنظيمية الرئيسية للاعتصامات، التحرك العسكري وتوجه عدد من المعتقلين السياسيين المفرج عنهم للانضمام للاعتصام المستمر أمام قيادة الجيش في الخرطوم. وقالت سودانية مقربة لمشاركين في الاعتصام أن التوجه السائد هو انه “مش ح نبدل كوز بكوز.” والكوز هو الوصف السائد لمؤيدي الحركة الإسلامية التي ساعد زعيمها الراحل حسن الترابي في وصول الجيش للحكم في ١٩٨٩ قبل أن يتخلص البشير تدريجياً من معظم قادة الحركة الإسلامية المدنيين ويستبقي فقط نائبه السابق علي عثمان طه، مؤسس الميليشيات التابعة لحزب المؤتمر الوطني، حتى خروجه من السلطة في ٢٠١٣.

وتشير مصادر إلى أن التقارير المتواترة منذ تصاعد التظاهرات لذروتها في مطلع الأسبوع حول تمرد صغار الضباط على تعليمات الضباط الكبار بقمع المعتصمين كانت في جزء منها بداية المفاصلة السريعة بين رجال الأمن غير الايديولوجيين مثل بن عوف ورئيس جهاز الاستخبارات صلاح قوش وبين جنرالات الجيش المقربين للبشير والمستفيدين من شبكات الفساد والمرتبط عديد منهم بالحركة الإسلامية تنظيمياً او ايديولوجياً.

وعلى رأس الانتفاضة الشعبية يقف تجمع المهنيين السودانيين الذي ظهر لأول مرة في أيار/مايو ٢٠١٦ واستمر يبني نفسه ببطء حتى آب/أغسطس ٢٠١٨ عندما أعلن ميثاق يستهدف توحيد النقابات وضم لجان للأطباء والمحامين والصحفيين والمهندسين وغيرهم، وعقد مؤتمرًا صحفيًا لم يحضره الكثيرون كشف فيه عن دراسة لرفع الحد الأدنى للأجور. ومع تفجر المظاهرات في عطبرة والقضارف وغيرها من المدن السودانية ضد غلاء الأسعار، تحول التجمع من المطالب النقابية للمطالب السياسية وانضم تحت لوائه عدة قوى سياسية عندما وقع على إعلان التغيير في ذكرى استقلال السودان في الأول من كانون الثاني/يناير ٢٠١٩ مطالبا بإسقاط البشير وتشكيل حكومة قومية انتقالية.

ورغم ان قادة التجمع مهنيون إلا أن عدداً منهم لهم انتماءات سياسية وحزبية ولكن لا يسيطر على هذه الشبكة قوة سياسية بعينها، وباتت صفحة التجمع على فيسبوك في الأشهر الأربعة الماضية مسؤولة عن إصدار جدول اسبوعي للمظاهرات. وظهرت النساء بقوة في المظاهرات والاعتصامات بينما تضامنت شركات ومكاتب أعمال صغيرة ومتوسطة منها مطاعم في توزيع المياه وشواحن الهواتف المحمولة والتبرع.

ما زال الوقت مبكراً للحكم على تطورات الأحداث ولكن علاقات السلطة ملقاة في الشارع الآن ويُعاد تشكيلها، وستكون اياماً عصيبة على الجميع

وتجاوز اعلان التغيير شعار #يسقط_بس وطالب بتشكيل حكومة انتقالية “من كفاءات وطنية بتوافق جميع أطياف الشعب السوداني تحكم لأربع سنوات”، وتقوم بعدة مهام منها إعادة النازحين واللاجئين طوعاً إلى مواطنهم الأصلية، وتعويض المتضررين ووقف التدهور الاقتصاد وعمل ترتيبات أمنية نهائية مكملة لاتفاق سلام عادل وشامل والانتقال لنظام تعددي، وإعادة هيكلة الخدمة المدنية والعسكرية، وضمان استقلال القضاء وسيادة القانون، وتمكين المرأة السودانية، وتحسين علاقات السودان الخارجية مع إيلاء أهمية خاصة للعلاقة مع دولة جنوب السودان.

ويكشف الإعلان عن طبيعة القوى المختلفة في تجمع المهنيين، بحيث بدت قائمة المطالب الطويلة هذه عمومية، وتتعلق بالحقوق والحريات وتتعدى القدرات السياسية للدولة وللمجتمع المدني والسياسي. ووقع على الإعلان مجموعتا نداء السودان والاجماع الوطني (تمتد عضويتها من حزب الامة والحزب الشيوعي حتى أحزاب بعثية وناصرية صغيرة)، لتشارك في الاحتجاجات بدورها مستفيدة من كون تجمع المهنيين مظلة واسعة اجتمعت على هدف رئيسي تطلبه كل تلك القوى، وهو اسقاط البشير. وشوهد شباب من حزب الامة والزعيمة السياسية مريم الصادق ابنة الصادق المهدي زعيم الحزب، وآخر رئيس ديمقراطي للسودان في نهاية الثمانينيات، في الاعتصامات، كما شارك فيها محمد ناجي الأصم من الحزب الاتحادي المعارض.

وستكون المواجهات الرئيسية بعد سقوط البشير على عدة محاور: الأول بين تجمع المهنيين الساعي لتأسيس دستوري جديد واستعادة المجال السياسي من ناحية، وبين القوى الأمنية المصرة على استعادة “النظام” دون البشير وازلامه من ناحية أخرى، والثاني بين القوى المكونة لهذا التجمع نفسها، والموقعة على إعلان التغيير بسبب اختلاف أولوياتها وطرق عملها، والمحور الثالث والأخير سيكون بين الاجهزة الأمنية التي لا يوحدها الان سوى خطر مواجهة صفرية مع الشعب.

والتحدي الأكبر أمام إعادة ترتيب أجزاء النظام السوداني القائم دون تغيير هيكلي حقيقي في المؤسسات، ستكون الاصطدام بالمطلب الرئيسي للانتفاضة وهو وقف التدهور الاقتصادي، وإعادة فتح المجال السياسي، وتسوية القضايا العالقة في دارفور ووسط السودان. فالوضع الاقتصادي السوداني عصيب للغاية: فاضافة الى ضعف هيكلي عميق واختلالات هائلة في الثروة والدخل، فقد استنزف اقتصاد السودان طوال عقود مغامرات الاجهزة الأمنية والجماعات الإسلامية والملتزمة كلها بسياسات نيوليبرالية الطابع، مفعمة بالفساد والسيطرة على موارد الدولة لخدمة مؤسسات وفئات معينة، بالتعاون مع قطاع أعمال صغير ومكبل وقطاع عام وخدمة مدنية مهترئة خاصة في مجال الخدمات العامة. ومن الناحية الثانية فلدى قوات الدعم السريع عداوات كثيرة في دارفور وكردفان، رغم انحياز قائد القوات محمد حمدان دقلو (حميدتي) المبطن للاعتصام، عندما أعلن في ديسمبر أن قواته لن تقمع المظاهرات، وركز في تصريحه الخميس ان قواته ستقف فقط ضد “المتفلتين والمخربين والمرتزقة” في إشارة إلى ميليشيات المؤتمر الوطني.

وستكون قوات الدعم السريع، التي أسسها البشير، مكوناً قلقاً ومزعجاً حتى لشركائها في اللجنة الأمنية العليا، حيث تنظر لها بعض قيادات الجيش والشرطة والاستخبارات بريبة. وتتميز هذه القوات بسرعة الحركة وبالتسليح الخفيف الجيد وقامت بأعمال قذرة في دارفور وكردفان في السنوات الماضية متخففة من القيود المهنية والعسكرية القليلة المتبقية لدى الاجهزة النظامية. وعديد من افراد هذه القوات انضووا من قبل تحت ميليشيات الجنجويد،المتهمة باعمال إبادة عرقية في دارفور في اوج الصراع هناك في ٢٠٠٣-٢٠٠٥. وكان حميدتي تاجر جمال في دارفور وكردفان، قبل ان ينضم الى ميليشيات الجنجويد وهناك توتر بينه وبين بعض قيادات الاجهزة الأمنية الأخرى بسبب إصراره على استقلال قواته، واتهاماته الصريحة للأجهزة والقوات النظامية بالمشاركة في الانتهاكات، وخاصة مقتل المتظاهرين في الأشهر القليلة الماضية. ولعل انقلابه على البشير جزء من إعادة تأهيل ميليشياته، وضمها الى نظام الدولة الحاكم دون اعتماد على رعاية البشير وجنرالاته.  

ويظل الاحتجاج في الشوارع هو الحلقة الأقوى وقاطرة التغيير في السودان، ولكنه في نفس الوقت الحلقة الأضعف، إذا قررت الاجهزة الأمنية الدخول في عملية قمع دموية واسعة، وسيكون هذا خراباً عميماً، لأنه سيكون مجرد تأجيل لازمات السودان الهيكلية، وابطاء عملية تحول سياسية لا بد منها، وإلا ازداد تفتت البلاد المفتتة. ولا يمكن استبعاد هذا الاحتمال لأن خلف الاجهزة الأمنية تقف قوى اجتماعية مؤيدة، منها قطاعات بيروقراطية حكومية ورجال أعمال ومستوردي أغذية وكبار ملاك أراضي وإسلاميون.

لقد تمكن الاحتجاج الشعبي السوداني وأيضاً بمظلة نقابية واسعة من إسقاط حكومات عسكرية الطابع من قبل في ١٩٦٤ (الجنرال عبود) وابريل ١٩٨٥ (الرئيس النميري). وفي كل مرة انتظر العسكر خمس سنوات ثم انقضّوا على الحكم مرة اخرى، بعد فشل الأحزاب التاريخية القديمة في قيادة البلاد، وتحالف العسكر مع الإسلاميين. واليوم، يبدو أن الأجهزة الأمنية قررت عدم الانتظار سنوات.

ما زال الوقت مبكراً للحكم على تطورات الأحداث ولكن علاقات السلطة ملقاة في الشارع الآن ويُعاد تشكيلها، وستكون اياماً عصيبة على الجميع، ولكن الاستقرار السريع القسري والخوف من تحمل الانتقال سيكون العون الاكبر لشبكة تحالف الاجهزة الأمنية والقوات المسلحة والميليشيات، حتى يتسنى لها ان تستقر في شبكة حاكمة جديدة. ولكن هذه المرة لن يصبر الشعب السوداني ٣٠ عاماً، ليس فقط لانه قد يواصل انتفاضته الراهنة، بل لأنه لن يكون هناك سودان متبقي كدولة، إذا استمرت صيغة الحكم البشيري التي مزقت اوصال البلاد وشعبه واقتصاده في احتضار مديد.

كاتب، صحفي، مصري، بتاع حقوق انسان، وموظف اممي سابق، ومستشار في الاعلام والتجهيل والحفر والتنزيل

Comments(4)

    • طارق عبد العال علي

    • 6 سنوات ago

    من مديدي الخدمة في المنطقة العربية
    هذه جملة من الفقرة الأولى من المقال، ما أقصده كلمة مديدي، هل المقصود منها، وهذا اعتقد هو الفهم الأصح ، الذين تم تمديد مدد رئاستهم لفترات، ولكني أحاول أن أصل إلى قناعة لغوية لقبول هذا المصطلح ( مديدي )

      • خالد منصور

      • 6 سنوات ago

      المديد في المعجم تعني الطويل او طويل العمر، واعتقد ان المحرر استخدمها ثم جمعها كصفة فصارت مديدي. اي انهم طويلي العمر في الخدمة. اعجبتني الكلمة اكثر من “طويلي الخدمة” التي استعملتها في النص الاصلي. .. شكرا على القراءة المدققة

    • محمد مصطفي/ إسعاد مندور

    • 6 سنوات ago

    رائع يا خالد – محمد مندور

      • خالد منصور

      • 5 سنوات ago

      شكرا يا عزيزي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *