نٌشر في موقع درج أول ديسمبر ٢٠١٩
نقلت صحيفة يومية عن مفتي الجمهورية المصرية أن “الشأن العام لم يعد مجالاً لأي أنسان أن يتحدث فيه” وأن “من يتحدث ويحلل الأمور الدينية أو الاقتصادية أو البيئية أو الهندسية وغيرها وهو ليس من أهل هذا التخصص … من شأنه أن يثير القلاقل … ويجعل الناس في حالة اضطراب وتشتت … وقد يحدث هذا فتنة في البلاد.” وتأتي تصريحات المفتي مع اهتمام شديد مستمر من النخبة الحاكمة في مصر، وفي أنحاء العالم. وذلك بإحكام السيطرة على ما يمكن قوله وما لا يمكن قوله في المجال العام، سواء من طريق التحكم بمنصات الحديث العام بما يشمل وسائل التواصل الاجتماعي التقليدية والإلكترونية، أو التحكم بمواضيع المنصات الإعلامية القائمة، سواء المطبوعة أو المتاحة على الشبكة العنكبوتية، بل وبمن يُسمح له بالكتابة أو التحدث في هذه المنصات أو الإدلاء برأيه، أو من طريق وصم المخالفين كما يفعل ترامب، بأنهم مجرد أبواق أخبار كاذبة Fake News.
ويرى أنصار “اعط الخبز للخباز ولو أكل نصفه”، أنه لا يصح أن يتحدث عن الاقتصاد وأسعار الفائدة وسياسات التعليم وتوليد الطاقة من الذرة ناهيك بشؤون الدفاع والأمن القومي، سوى خبراء متخصصين. وطبعا يسحب رجال دين هذه المقولة إلى امتدادها المنطقي في أذهانهم وهو أنه لا يصح الحديث في أمور الدين سوى للضالعين فيه، الخبراء أو الفقهاء.
لا شك في أن رأي الخبراء التقنيين مهم للغاية، فيجب أن يصمم مهندس طرق شكل الجسر وأنسب طرائق بنائه لعبور شارع الثورة في مصر الجديدة، مثلاً، ولكن السياسيين وأي إنسان معني بالشأن العام من حقه أن يتحدث في ما إذا كانت هناك حاجة لهذا الجسر أو لا، ومن يخدم، ومن ينفق عليه، ومن أين يأتي وإلى أين يذهب، وإن كان بإمكاننا أن نستخدم مخصصات الجسور بشكل آخر. ومن حق سكان الشارع أن يكون لهم رأي، فأسعار منازلهم وأمان أطفالهم والهواء الواصل إليهم، كلها ستتأثر بهذا الجسر. يجب أن يصمم متخصصون في اقتصادات التأمين الصحي العام أنسب أساليب تغطية الاحتياجات في المجتمع، ولكن بعد أن يقرر هذا المجتمع ما إذا كان واجباً توفير التغطية الصحية الأساسية لكل الناس، كما هي الحال في دول الرفاه في أوروبا، أو على كل شخص أن يدفع مقابل خدمته الصحية (عدا حالات الطوارئ) مثلما هي الحال في الولايات المتحدة، وكيف ومن أي طريق يمكن تأمين الموارد.
الشأن العام هو شأن كل مواطن الذي يشارك في نهاية الأمر في دفع الأثمان وتحمل العواقب، ولأن الخيارات المتاحة ليست كلها خيارات تقنية، وإن كانت كلها في جانب منها خيارات سياسية بامتياز، ولأن السياسات العامة تعتمد في نجاحها على مدى دعم الناس لها ومشاركتهم في تنفيذها والالتزام بها أو تغييرها لو فشلت. الشأن العام متروك في أيدي الخبراء والسلطان فقط، وصفة مجربة للفشل، طال الأمر أم قصر. القرار التقني يستند في نهاية المطاف إلى طائفة اختيارات متاحة أمامه، ولكن هذه الخيارات تقوم كلها قبل كل شيء على توازنات وتوجهات سياسية ومجتمعية وليس على علوم طبيعية (أو دينية)، ولا تستطيع هذه التوجهات والتوازنات أن تتبلور من دون السماح للجميع بالإدلاء بأصواتهم وآرائهم في الشأن العام.صحيح أنه تصعب مطالبة دولة بتقديم تعليم مجاني جيد عندما تكون خزائنها فارغة ومضطرة للاستدانة، ولكن من حق الناس مطالبتها بألا تخصص قطاعاً ضخماً من مواردها للتسليح العسكري مثلاً (ويتعدى في تشيلي التي تواجه احتجاجات اجتماعية واسعة 7 في المئة من الانفاق الحكومي).
من حق الناس الاعتراض إذا قامت الحكومة برفع أسعار الوقود 50 في المئة، لتغطية عجز الموازنة عوضاً عن تقليل كلفة سياساتها الخارجية مثلما هي الحال في إيران مثلاً. من حق الناس في كل مكان الاحتجاج إذا ظلوا مضطرين إلى الاستدانة ليعيشوا حياة كريمة، على رغم أنهم يعملون لساعات طويلة وشاقة في مهن مرهقة، مقابل مداخيل غير كافية في أحيان كثيرة. من حق الأغلبية أن تصرخ إذا كانت مضطرة الى دفع الاثمان عبر ضرائب مبيعات ورسوم خدمات وأسعار متزايدة للماء والكهرباء والمواصلات، بينما ترفض الحكومات رفع الضرائب على ثروات الأغنياء (رئيس تشيلي ملياردير مثله مثل معظم كبار رجال الدولة في العالم العربي من الحريري الى بن زايد وغيرهما) أو تخفيض مغامراتها الخارجية المكلفة لنفسها وللآخرين (إيران والسعودية) أو النظر الجدي في سبل أخرى لرفع إنتاجية الاقتصاد وتقاسم الأعباء بصورة أكثر عدالة وإنصافاً.هذا كله نقاش في الشأن العام لا يصح ولا ينفع ولا يجدي تركه لأصحاب السلطان وبيوت الخبرة.
هذا كله نقاش في الشأن العام لا يتفق الخبراء أساساً على وجهة نظر واحدة في معظم أموره. كيف، إذاً، يمكن أن تقنع الجماهير الخارجة في قارات العالم كلها في الأشهر القليلة الماضية بأن يتركوا الأمر في يد خبراء منتقين واعين بالشأن العام والكثير من هؤلاء الخبراء هم من أفسدوا على الناس دنياهم، بل ودينهم أحياناً، في السنوات الكثيرة الماضية وبخاصة منذ تسيّد السياسات الليبرالية الجديدة في الاقتصاد وسيطرة مذهب الحرب الدائمة على مواجهة الإرهاب وتغلغل التفكير والمقاربات الأمنية في نقاشات السياسة العالمية والهوس المتصاعد بمطاردة المساكين الفارين من بؤسهم، من طريق الهجرة غير المنتظمة.
كيف يمكن إقناع ملايين المحتجين في شوارع الجزائر وبوليفيا وتشيلي وكولومبيا واكوادور وهندوراس وفرنسا وألمانيا والهند وهولندا واسبانيا والسودان وإيران والعراق ولبنان وزيمبابوي وهونج كونج، وغيرهم في منطقتنا وخارجها، بأن صندوق النقد والأسياد والأئمة والخبراء والجنرالات سيصلحون أحوالاً هم أنفسهم خلقوها وتسببوا فيها فرادى وجماعات. ليست الكوارث الاقتصادية في هذه البلدان، وفي العالم كله أيضاً، نتيجة جهل علمي أو فساد أخلاقي، بل هي نتيجة سياسات بعينها ونتيجة تسلط قوى بعينها على الشأن العام ونتيجة نظام اقتصادي عالمي يشجع على زيادة النمو، ولكنه يفشل في خلق حد أدنى من العدالة والإنصاف في توزيع ثمار هذا النمو أو حتى إعادة توزيع ما تراكم من ثروات. وهذه النخب الحاكمة العالمة منها والجاهلة تمثل مصالح ضيقة أدت إلى رفع معدلات اللامساواة إلى حدود خرافية، أو فشلت في بلادنا التعيسة في الخروج من الرمال الناعمة للعجز الاقتصادي الهيكلي فلجأت راضية، ولكن غير مرضي عنها، إلى مستنقع وهم النمو عبر الديون (مصر ولبنان مثلاً).للسيد الجليل مفتي مصر الحق كمواطن أن يقول لنا رأيه في الشأن العام، ولكن ليس له أن يقمع آراء الباقين ولا سيّما في قضايا ليس فيها حق وباطل ديني.
ويعلمنا التاريخ أن قضايا التحليل والتحريم ذاتها لم تكن كلها نتيجة علم وخبرة. فقد أفتى شيوخ الإسلام في الإمبراطورية العثمانية بتحليل قتل كل سلطان جديد أشقاءه حتى لا ينازعوه السلطة، واستمرت الفتوى قرنين تقريباً حتى ألغاها سلطان عثماني (وأيده شيخ آخر لا ريب). وفي القرن التاسع عشر أفتى شيخ الإسلام في إسطنبول بأن من حق السلطان الاستعانة بجيوش روسيا المسيحية ضد جيوش مصرية عربية مسلمة أرسلها محمد علي الألباني من القاهرة، وأفتى شيخ جليل للملك فاروق بحقه في شغل منصب خليفة المسلمين، بينما أعلن شيخ آخر أن اشتراكية الضباط الأحرار الذين خلعوا الملك فاروق وطردوه هي من الإسلام. ولنا في تحولات بعض الشيوخ السعوديين في العقود الماضية مع أهواء السلطة درس بليغ في هذا المجال.
ولم يخدم الوعاظ والشيوخ السلطان فحسب بل استعانت بهم جماعات جهادية عنيفة (واستعانت بهم أيضاً)، تتحدى السلطات السياسية القائمة بداية من التنظيم الخاص للإخوان المسلمين، وصولاً إلى الجهاد ثم القاعدة ونهاية بدواعش المنطقة العربية ونيجيريا ومالي والصومال.الحق في الشأن العام ليس مصدره الخبراء بل الناس جميعاً من طريق مؤسسات ديموقراطية وحرية التعبير، وكما نُسب للإمام عليّ فإن “الحق لا يعرف بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق، فاعرف الحق تعرف أهله”. ونضيف أن الحق في مسائل الشأن العام يتغير من زمان إلى آخر ومن مكان إلى آخر ويحدده الناس. هم أصحاب الحق ودافعو الثمن في نهاية المطاف.