المدونة

لقاء مع الترا صوت نُشر يوم ٢٣ مارس ٢٠٢٠

ألترا صوت – فريق التحرير

يخصّص “ألترا صوت” هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.

خالد منصور كاتب وصحفي من مصر، مهتم بالتاريخ وحقوق الإنسان والسياسة، صدر له كتاب بعنوان “خلف الستار: وجه أفغانستان الآخر“، وعدة إسهامات في عدة كتب أخرى.

  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

يرجع الفضل في هذا (أو الذنب) لأمين مكتبة في مدرسة أم المؤمنين الابتدائية في المنصورة. كان هذا الرجل الكهل طيبًا ويتعامل بجدية مع حصص القراءة لأطفال لا يهمهم سوى الانطلاق الى حوش المدرسة واللعب والتنطيط. كان في المكتبة كتب مصورة كثيرة وكنت أهرب إليها أحيانًا من الحصص الدراسية المملة. كان أمين المكتبة الذي للأسف لا أتذكر اسمه يعطيني قصصًا مصورة، قليلة الكلمات تصلح لفتى عمره 8 سنوات. وبعدها بدأت أقرأ الصحف أو كل ورقة تقع تحت يدي.

ربما كان هذا كله تعويضًا عن الخجل الاجتماعي والفشل في لعب الكرة التي كان كل الأطفال يلعبونها، أو ألعاب الجري والعدو والاختباء التي كنت أفشل فيها دائمًا. لم تكن هناك وسائل تسلية عدا القراءة، وكنت محظوظًا إذ كانت السبعينيات ربما آخر سنوات تكون فيها مكتبات حقيقية في مدارس مصر الحكومية. بعد ذلك بعشرين سنة صارت المكتبات أمرًا ينتمي للتاريخ بلا ميزانيات أو موظفين أو قراء.

في مدرستي الإعدادية، المدرسة الأيوبية، قريبًا من بيت ابن لقمان حيث سُجن لويس التاسع في ختام حملته الصليبية على مصر، كانت هناك مكتبة معقولة وقرأت فيها روايات وقصص يوسف ادريس، وبدأت أقرأ الاعمال الروسية المترجمة وخاصة تولستوي ودوستوفيسكي. ولكن أهم مكتبة كانت لا شك دار الكتب التي كانت قائمة على النيل في المنصورة ولم يكن يمكن الاستعارة منها، ولكني قضيت فيها ساعات طويلة طوال فصول الصيف وأنا في المدرستين الإعدادية والثانوية، وخاصة أنني لم أعد أمارس أي أنشطة رياضية بسبب مشكلة في ساقي. هناك قرأت بلا أي ترتيب روايات وقصص وكتب في الفلسفة والتاريخ، كنت أقرأ أحيانًا دون فهم، وأحيانًا دون استمتاع بما اقرأ، ولكني واصلت.

وفي المدرسة الثانوية، المنصورة الثانوية العسكرية، كنت أقضي حصصًا كثيرة مختبئًا داخل المكتبة هاربًا من الحصص المملة، ومقابل إيوائي ساعدت أمناء المكتبة في إعادة تصنيفها وكتابة بطاقات الكتب وصرت أعرفها كتابًا كتابًا.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

الملل والنحل للشهرستاني الذي قرأته في سن مبكرة (ربما 13 سنة) يظل أهم كتاب أثّر فيّ وجعلني هذا الشخص المتسامح (أفضل أن أفكر في نفسي هكذا) الذي يعيش مرتاحًا مع الشك ويتقبل الآخرين دينًا وعرقًا وجنسًا ويرفض العنف إلا دفاعًا عن النفس. غريب أن يكون كتاب وضعه صاحبه من أألف سنة مسؤولًا عن أمور كهذه، ولكني أدركت بعد ان قرأت كل فصل في الكتاب عدة مرات (من أين لصبي كان يجب أن يلعب الكرة لا أن يجلس يقرأ في غرفة رطبة أن يفهم الفرق بين المرجئة والقدرية والجهمية والاشاعرة!) ان كل هذه المذاهب كانت سبلًا نحو حقيقة ما وإنه لا أحد صحيح أو محق تمامًا، وربما الحقيقة كلها في مكان آخر أو المعنى في بطن الشاعر كما نقول.

وأنا أكتب هذا أشعر كما لو كنت شخصًا يتبنى مقولات ما بعد الحداثة (وأنا اتبنى بعضها ولكني لم أكن كذلك في سنوات المراهقة وعانيت كثيرًا بسبب أنني رفضت الانصياع الذهني والنفسي للرأي الغالب).

الكتاب الثاني، وهذا كليشيه طبعًا، هو ألف ليلة وليلة الذي قرأت نسخة غير مهذبة منه تحت سرير عمي. نعم بالضبط كان عمي الذي انتمى للإخوان المسلمين في الفترة الناصرية واضطُهد لهذا السبب قد خبأ كل الكتب “غير المهذبة” في كراتين تحت السرير في بلدته في الشرقية حيث كنا نقضي أسابيع كل صيف، ونكاد نموت من الملل ونحن مراهقون. ومرة كنت أختبئ تحت السرير فعبثت بهذه الكراتين ووجدت الكتاب وبعد عدة صفحات ذُهلت لما قرأته من تفاصيل جنسية وأسماء أعضاء كنا نسمعها على سبيل السباب أو الشتيمة، ولكنها مكتوبة في قصة ومطبوعة. أعتقد انني كنت على وشك البلوغ في تلك السنة، وأيضا سحرني هذا الجو الممتلئ بمغامرات مختلفة تمامًا عن كتب المغامرين الخمسة والشياطين الـ13 ومجلة تان تان التي أدمنت قراءتها. أعتقد أنني قضيت نصف زيارتنا تحت السرير أرفع طرف الملاءة قليلًا في تلك الغرفة الداخلية المعتمة أثناء النهار من أجل ان أرى صفحات الكتاب الصفراء القديمة.

  • من هو كاتبك المفضل؟ ولماذا أصبح كذلك؟

سؤال صعب وليست لدي إجابة واحدة او واضحة. يعني وأنا في سنوات المراهقة كنت مغرمًا بيوسف ادريس في القصة وجان بول سارتر في الرواية (قرأت الغثيان في دار الكتب على نيل المنصورة) وأحاول أن أقرأ كل ما تقع يدي عليه، لكن بعد ذلك انتقلت للفلسفة وكان زكي نجيب محمود وأستاذه الإنجليزي برتراند راسل أول ما قرأت (لا أستطيع ولا أحب أن أقرأ لهما الآن ما عدا كتاب تاريخ الفلسفة لرسل الذي أوصي به أحيانًا للمبتدئين في قراءة الفلسفة، وأيضًا مذكرات نجيب محمود الذاتية قصة عقل وقصة نفس للمهتمين بهذا النوع من الكتابة). لو قفزنا عشر سنوات للأمام من فترة ادريس وسارتر وراسل سنجدهم اختفوا وحل محلهم محمد المخزنجي ودوستيوفسكي ونيتشه، ثم خمس سنوات أخرى ليصبح هناك بول اوستر وميلان كونديرا وماركس وفرويد، وهكذا لم يكن لدي ابدأ كاتب مفضل أكثر من سنوات قليلة، انا انتقائي للغاية.

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟

أكتب مراجعات كتب أحيانًا بشكل مهني وأنشرها ولكن هذا ليس كثيرًا، الآن مؤخرًا مع فيسبوك صرت أنشر عدة فقرات عن الكتب التي تعجبني. أكتب ملحوظات واضع خطوطًا وأقواسًا في كتب الاجتماع وعلم النفس التي أحب قراءتها كثيرًا ويوبخني أطفالي على هذا الآن عندما يشاهدوني أقرأ وفي يدي قلم مشرع!

  • هل تغيرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

لا اقرأ كتبًا الكترونية إلا إذا لم تتوفر نسخة ورقية لها وكنت فعلًا محتاجًا لها من أجل بحث او مسألة أكتب فيها. طبعا أقرأ أبحاثا عديدة ومقالات إلكترونيًا مثل الآخرين ولكن ليس الكتب. وأندم على أنني لم اتحول لهذا النمط من الكتب عندما أسافر واضطر إلى حمل كتابين أو ثلاثة (دائما أقرأ في عدة كتب بالتوازي).

  • حدثنا عن مكتبتك؟

مع الوقت أصير أقل اهتمامًا بالاقتناء، ربما بسبب انني تنقلت كثيرًا في حياتي، وصارت لدي مئات الكتب التي تركتها خلفي في جوهانسبرج أو واشنطن أو إسلام أباد وهكذا، بعد سنوات كثيرة من الشراء المرضي (اشتريت آلاف الكتب لا شك في حياتي!) باتت القراءة وليس الامتلاك هي ما يهم بالنسبة لي، ما عدا كتب أشعر بأهمية ان تكون موجودة ومتاحة طول الوقت مثل أعمال فرويد وعشرات الروايات التي لم أقرأها بعد، وأحب أن تكون موجودة وأتبرع بما قرأته منها، ثم أشتري بديلًا وهكذا (في العادة أتبرع بالروايات التي انتهيت منها ما عدا أعمال نجيب محفوظ لأني أحب أن أعود إليها أحيانًا). لدي أيضًا مجموعة كتب تاريخ سياسي واقتصادي بالعربية والإنجليزية عن المشرق العربي وإيران وتركيا أحتفظ بها دائمًا معي لأغراض بحثية ولكتاباتي، ولو أني مع الوقت أستعين بقواعد بيانات ومكتبات علمية متاحة لي على الإنترنت أكثر فتصير مكتبتي في الحقيقة مصدر متعة ذهنية وليست أساسية من اجل العمل.

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

أقرأ ثلاث كتب في نفس الوقت كالعادة. كتاب بهروز قمري “قافلة الإعدام” عن السنوات الثلاث التي قضاها وهو محكوم عليه بالإعدام في سجن ايفين في طهران حتى خرج في عفو طبي في نهاية 1984 لأنه أصيب بسرطان قاتل (نجا منه بأعجوبة فيما بعد وصار أستاذًا في جامعة برنستون الامريكية). استغرق بهروز نحو 30 عامًا لينتهي من هذا الكتاب الذي صدر بالإنجليزية في 2016 تحت عنوان “Remembering Akbar”، وأكبر هو اسم بهروز الحركي عندما جرى اعتقاله سنة 1981 بسبب عضويته في حزب شيوعي. وجدت في كتاب بهروز كثيرًا مما وجدت في كتاب فيكتور فرانكل، عالم النفس النمساوي اليهودي الذي نجا من تجربة مشابهة في معسكر أوشفيتز النازي (“معنى الحياة The Meaning of Life”).

في النهاية يقترب الانسان يقترب من شروط انسانيته في مواقف مفرطة الحدية والرعب كهذه، كم يستطيع أن يدعم الآخرين وأن ينال دعمهم وتعاطفهم؟ كم يتخلى عن كرامته؟ وبماذا يحتفظ دون مساومة؟ ولماذا؟ وكيف ينجو دون أن يصير شخصًا كريهًا وناقمًا؟ وكيف يصل إلى نوع من الرضا النفسي والتوازن رغم المعاناة البشعة والعبثية التي مر بها، وأخيرًا، كيف يجد معنى لكل هذه الوحشية.

الكتاب الثاني هو “عصر مثير” لإريك هوبسباوم، المؤرخ الماركسي الأوروبي عن قصة حياته التي امتدت من سنة 1917 عندما ولد في الإسكندرية حتى التسعينيات (مات بسرطان الدم في سنة 2012). كتاب عظيم عن القرن العشرين الذي عاشه هوبسباوم مراقبًا ومؤرخًا من الثلاثينات حتى نهاية القرن، حتى الآن لم أعرف عن هوبسباوم الإنسان الكثير لأني أعتقد أن المراقب الملاحظ داخله تحكم في عملية الكتابة، أو لأنه لم يكن مهتمًا أو معتادًا أن يتحدث عن مشاعره وحياته الصعبة، وربما سيفعل هذا في نصف الكتاب الثاني. مثير كم كانت الحدود أيامها واطئة لمن يمكنه الحركة، فقد ولد الرجل في الإسكندرية إلا أن لا ذكريات له هناك حيث غادرها في أوائل طفولته إلى فيينا، ثم الى برلين حيث توفى أبوه ثم أمه قبل ان يبلغ سن الخامسة عشرة. لا تتخيل مدى مشقة الحياة في أوروبا بين الحربين، وأحلام وتطلعات فتى ذهنوي (“قبيح” كما يصف نفسه) وفي نفس الوقت يصعب على أمثالنا ممن عاشوا طول عمرهم يسعون لعبور حدود بين دولة وأخرى ويجتهدون للحصول على تأشيرات سفر ويلاقون عنتًا ومتاعب بسبب ارتفاع الاسوار أن يقرؤوا عن عالم أوروبا الفسيح (فقير وصعب لكنه فسيح) قبل الحرب العالمية الثانية.

الكتاب الثالث، هو رواية شادي لويس بطرس الثانية “على خط جرينتش” ولكني ما زلت في بداياتها.

كاتب، صحفي، مصري، بتاع حقوق انسان، وموظف اممي سابق، ومستشار في الاعلام والتجهيل والحفر والتنزيل

Comments(3)

    • صلاح علي

    • 5 سنوات ago

    مازالت عندى رائي اكتب رواية

      • خالد منصور

      • 5 سنوات ago

      خلاص .. تخلص ع الصيف بس بدأت من عشر سنين واكتر!

      • خالد منصور

      • 5 سنوات ago

      حاضر وسامنحك اول نسخة هدية ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *