نُشر في موقع مدى مصر يوم ١١ اغسطس
بعد مرور ساعات الصدمة جرّاء انفجار ميناء بيروت المروع، لم تمر بضعة أيام من الحداد المرير، قبل استئناف جدالات حادة ومعتادة على فيسبوك وتويتر حول حزب الله والمقاومة وإسرائيل وسوريا وفلسطين، وهكذا سريعًا يشحب اللبنانيون ودمهم بينما يتقارع الناس بحجج وحواديت مستهلكة بل ومتناقضة، حتى يبدو كما لو كان من يتجادلون لا يعيشون في نفس الزمان، ولا المكان.
في الرابع من أغسطس لقى أكثر من 150 شخصًا مصرعهم، وأصيبت آلاف بعد انفجار مخزن به 2750 طنًا من مادة نترات الأمونيا شديدة الانفجار في ميناء بيروت، وضرب الخراب والدمار آلاف المساكن والمحال والسيارات وغيرها من ممتلكات عامة وخاصة في دائرة نصف قطرها ستة كيلومترات في هذه المدينة المكدسة.
وبعد انجلاء الصورة قليلًا، ظن البعض أن الوقت حان للحديث عن سبب فشل الدولة اللبنانية المركب، الذي أدى إلى ترك هذه المواد الخطيرة المصادرة من سفينة روسية متهالكة قابعة في مخزن منذ عام 2015 في ميناء يقع في قلب العاصمة دون إجراءات سلامة صارمة. وظن البعض أن الحديث سيتركز على إمكانيات وطرق إصلاح النظام الحاكم القائم على محاصصة طائفية، وعلى فساد صار أسلوب حياة يستحيل دونه التفكير في سير العمل السياسي والاقتصادي في لبنان.
ولكن، بينما خرجت عشرات الآلاف من اللبنانيين لشوارع بيروت لتنظيفها ومساعدة بعضهم البعض ثم الاحتجاج، بل واقتحام بعض مباني الوزارات، تركز معظم اللغط الدائر في دوائر الثرثرة السياسية الافتراضية العربية على نفس المحاور القديمة.
يبقى لبنان في هذه الحوارات كما يتخيله المتحدثون العرب، أهم كثيرًا من اللبنانيين الحقيقيين أنفسهم، أهم من الناس، من الاحتياجات اليومية.
هناك يساريون وقوميون ووطنيون عرب يفرِطون في تأييد حزب الله لأنه «يقاوم» إسرائيل، بينما لا يستطيعون أن يرفعوا إصبعًا في وجه حكوماتهم المتعاونة تمامًا مع إسرائيل. لطالما كانت عروبة الآخرين عبئًا على مواطني كل بلد عربي، كما رأينا في اصطفاف مثقفين عروبيين جوار «حارس البوابة الشرقية» صدام حسين في التسعينيات أثناء الحصار الأمريكي، والديكتاتور الدموي يسوم ناسه سوء العذاب، وكما سمعنا في تبريرات يسارية مستمرة لبراميل بشار الأسد الهاوية على رؤوس بني بلده (مسلحين وعزل)، أو كما صدعتنا تهليلات إسلاميين للترابي والبشير وهم يشرفون على حرب أهلية خاسرة، ثم مجازر ومذابح مدوية في دارفور. تبارى مدافعون عرب (وبعضهم مدفوعين طائفيًا) عن دور مقاتلي حزب الله في سوريا في إيقاف الصعود الجهادي الداعشي، وتنافس منافحون سنة ونفطي الهوى حتى 1990 في مدح دور صدام في منع المد الشيعي الإيراني، واستلم الراية منهم في مديح الرجل قوميون وناصريون عرب حتى عام 2003، أو تقديسه في ما بعدها. ولدى نفس هؤلاء القوميين والإسلاميين، فان الترابي والبشير تعرضا لحملة مزدوجة من الصهاينة والأمريكان لتقسيم بلد لا يعلم هؤلاء المتحدثون أن من صنعها أصلًا كدولة واحدة هو الاستعمار، وأنها دخلت في غمار حرب أهلية حتى قبل إعلان استقلالها في 1956 بعام واحد.
قاتل حزب الله إسرائيل وحلفاءها وخصوم لبنان وخصوم إيران ببطولة (وأحيانًا بعنف وإرهاب) منذ أوائل الثمانينيات، ولعب دورًا في انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000 بعد احتلال دام 18 عامًا، ولكنه الآن يقاتل في سوريا ويقتل سوريين (مدنيين ومسلحين، معارضين من ألوان سياسية متعددة، ومنهم أعضاء في القاعدة وسلفيين جهاديين)، وبدلًا من أن يكون الحزب مخلصًا لبدايات الحركة الشيعية السياسية اللبنانية كممثل عن المستضعفين، صار يفرض سيطرته السياسية في لبنان على البرلمان والحكومة، بل وقصر الرئاسة، بفعل عدده وعتاده وقوته المالية واحتكاره لتمثيل الطائفة الشيعية، وصار للحزب أذرعًا اقتصادية ومصالح في الأسواق وارتباطات دولية وتمويلات غامضة وضخمة. ورغم كل هذه التورطات التي جعلته أشبه بدولة دون التزامات الدولة، استمر حزب الله يدعي أنه رأس حربة المقاومة ضد إسرائيل بدعوى استمرار احتلال إسرائيل لمزارع شبعا التي تبلغ مساحتها 25 كيلومتر مربع، وسيطر عليها الإسرائيليون لأنها كانت تحت السيادة الفعلية السورية كجزء من الجولان المحتل في 1967، ولم تقر سوريا بعد بسيادة لبنان على تلك المزارع.
حزب الله الآن يتصرف مثل كل لاعب سياسي طائفي محافظ يمتلك ميليشيات مسلحة، وأدت آخر عملية عسكرية حقيقية شنها الحزب ضد إسرائيل في عام 2006 إلى رد فعل دموي وبلطجة معتادة من إسرائيل نجم عنها تدمير هائل في البنية التحتية اللبنانية من كهرباء وجسور وكباري ومقتل المئات من اللبنانيين. لم يعد لسلوك حزب الله منذ عام 2000 أي نتائج إيجابية صلبة حتى إذا حاسبناه على أساس أهدافه المعلنة هو ذاته، سواء كان هذا لحساب الشعب اللبناني عمومًا أو للشعب الفلسطيني. ويستعصي الإصرار على استمرار احتفاظ الحزب بالسلاح على الفهم في ضوء هذا الفشل المركب، وتحول ما يسمى بالممانعة أو المقاومة لشوكة صغيرة في خاصرة إسرائيل وسيف قاطع في قلب مدنيين عرب كثر في سوريا وفي لبنان.
يتعين انتقاد حزب الله بكل قوة مثلما ينتقد الواحد سياسات الحكومة السعودية أو المصرية أو غيرها، لأنه يتصرف مثل الحكومات العربية، حيث تصبح الأولوية للحفاظ على السيطرة والسلطة وليس لتحقيق مصالح عامة مفترضة، وحيث تصبح المصلحة العامة وسيطرة الحزب والرئيس والملك وأتباعهم على السلطة كلها أمرًا واحدًا. ننتقد حزب الله مثلما ننتقد أي لاعب سياسي واقعي إقليمي تختلف ادعاءاته وحساباته عن سلوكه ونتائجه. ننتقد حزب الله لأنه جزء أصيل من مشكلة الدولة اللبنانية الفاشلة وعاجز عن إنقاذها أو القيام بالمهمة الصعبة لتحويلها لدولة لمواطنيها. وننتقده بقسوة ربما تفوق نقد النظم النفطية أو العسكرية لأنه يدعي الإصلاح والتقدمية والدفاع عن المستضعفين.
ويجب انتقاد تناقضات الخطاب العام للحزب ولزعيمه المفوّه حسن نصر الله، الذي ما زال من أبرع المتحدثين السياسيين العرب. يجب ألا تعمينا البلاغة عن كيف يتحدث الرجل وأنصاره كأنهم الدولة، وكأنهم المعارضة، وكأنهم النظام، وكأنهم الضحايا، وكأنهم القوة الوحيدة الباقية في البلاد، وكل هذا في خطبة واحدة قد تستمر بضع دقائق. خرج علينا «السيد» كما يسميه أنصاره التزامًا بقواعد الطائفة بعد انفجار الميناء المذهل المدوي بثلاثة أيام، ليلعب عدة أدوار يحب لعبها دائمًا في نفس الوقت وبلا أي تردد أو خجل: فهو السياسي الأثقل وزنًا في لبنان (تسليحًا بشكل مستقل عن الجيش والدولة، وأيضًا ثقل سياسي يمكنه من دور صانع الحكومات)، وهو في نفس الوقت ينتقد الدولة والحكومة وأدائها ويلعب دور المعارضة، ويقول إن «الدولة أو الطبقة السياسية إذا لم تصل في هذه القضية لنتيجة وتحاكم فلا يوجد أمل ببناء دولة»، ثم يسبق هذا كله بلعب دور المقاوم الأوحد، قائلًا إنه يعرف عن ميناء حيفا الإسرائيلي أكثر مما يعرف عن ميناء بيروت. ويُفترض بنا نحن السذج أن نصدق كل هذا!
ويجب انتقاد حزب الله دون أن تواجهنا الاتهامات المكررة بأننا طائفيون أو نعمل لحساب محور خليجي إسرائيلي أو أننا، على عكس منتقدينا الجهابذة، لا نفهم شيئًا في السياسة الواقعية وتعقيدات لبنان وفقه الأولويات والبوصلة المتجهة إلى القدس. العروبة والوطنية والأيديولوجيات الدينية أفكار عظيمة هائلة أسهمت كثيرًا في تحرير البشر، أفكار نشأت من أجل تكريم الإنسان وتمكينه من تحقيق أقصى ما يستطيع، مع تحقيق موازنة بين مصالح البشر المتضاربة، ولكنها إذا صارت عبئًا وفشلًا، صار من الواجب وأبجديات المصلحة العامة انتقادها، وبشدة.
ويحب انتقاد حزب الله على الأخص من جانب العرب خارج لبنان، والذين ينسون أحيانًا أن بشرًا من لحم ودم وأطفال وأزواج وزوجات وأصدقاء وأحباء وبيوت، هم من خسروا الكثير والكثير جدًا بفعل سياسات الحزب، وأن اليوم سيأتي عندما توضع إنجازات الحزب أمام إخفاقاته، ونعامله كأي حزب بشري، وليس على أنه حزب الله.
صلاح أبونار
مقال جيد وفِي الصميم
خالد منصور
شكرا
نشوة الأزهري
تمام مائة في المائة…
خالد منصور
شكرا
عبدألإله الفالح
الله يحميك و يحفظك و يبارك فيك ويكثر من أمثالك
مقال رائع جداً و موضوعي و ملتزم بكل القواعد الحياديه