نُشر في موقع درج هنا بتاريخ ٢٧ اكتوبر ٢٠١٧
جاء الانقلاب العسكري في السودان ليقضي على ما تبقى من بعض التفاؤل بشأن التأثير السياسي الإيجابي لثورات الربيع العربي. وأتي انقلاب الجنرال عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان بعد ثلاثة أشهر بالضبط من قرارات مماثلة اتخذها نظيره التونسي المدني المنتخب، الرئيس قيس بن سعيد عندما أقال الحكومة وجمد عمل البرلمان.
ويعري هذان الانقلابان المشكلات العميقة التي تواجه مجتمعات ودول متعددة في المنطقة حيث تتفاقم الأزمات الاقتصادية، ويصعب التوافق السياسي على حلها وعلى من سيدفع أثمان هذا الحل وبخاصة مع وجود قوى ومؤسسات مستفيدة من الوضع القائم داخل البلاد وخارجها. وهكذا عندما يصل الأمر إلى طريق مسدود في بلدان الربيع العربي وتصبح الحلول الوسط ذاتها مرفوضة، تتقدم المؤسسات الأمنية مدعومة بفصائل سياسية لإغلاق المجال السياسي برمته مرة أخرى، والعودة إلى الحلول السلطوية وتقاسم المنافع الاقتصادية في ظل نظام قمعي وأجهزة أمن مطلقة السراح.
وعانى الاقتصاد السوداني المتردي من ضربة إضافية منذ أواخر أيلول/ سبتمبر، بسبب إغلاق محتجين من عشائر البجا في شرق البلاد ميناء “بورسودان” الحيوي. وخلال اقل من شهر خسرت البلاد نحو 130 مليون دولار، بينما فقدت هيئة الميناء إيرادات تقدر بنحو 15 مليون دولار، ووصلت خسائر شركات الشحن إلى 400 ألف دولار يومياً، بينما شحت إمدادات الوقود والطحين ومستلزمات حيوية أخرى في الأسواق. وتوقعت تقارير أن ترتفع نسبة التضخم السنوية هذا العام إلى نحو 250 في المئة.
ويقع جزء من المسؤولية عن التردي الاقتصادي في العامين الماضيين على عاتق رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وبعض كبار المسؤولين عن الاقتصاد السوداني، الذين انصاعوا لبرنامج تقشف اقتصادي صارم نال مديح الدائنين الدوليين في نادي باريس، وأيضاً صندوق النقد والبنك الدولي، ولكنه جلب عليهم غضباً عارماً من فقراء المدن ومعظم سكان الأقاليم المهمشة، بعيداً من الخرطوم. وعلى سبيل المثال قامت الحكومة في شباط/ فبراير الماضي بخفض سعر الجنيه السوداني من 55 جنيه للدولار إلى 375، فيما تم إلغاء الدعم على الوقود. وعجز حمدوك، الذي يبدو أنه صار رهن الإقامة الجبرية، بينما اعتقل عدد كبير من وزرائه ومستشاريه، عن الحصول على أي تنازلات اقتصادية تذكر من جانب المؤسسة العسكرية التي تلتهم معظم موازنة الدولة. ووصل دين السودان الخارجي العام الماضي إلى نحو 58 مليار دولار وهو ما يعادل 253 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، ما يجعل البلد من أعلى الدول مديونية في العالم.
وجاء إغلاق “بورسودان” في ذروة احتجاجات متتالية لقبائل البجا في شرق البلاد، الذي يعاني من أعلى معدلات وفيات للأطفال في السودان بسبب الفقر وتدني الخدمات الصحية، على رغم أن هذه المنطقة تضم أكبر عدد مزارع تجارية في السودان وأهم الموانئ. ولا تتفق كل قبائل الشرق على مطالب سياسية واحدة وتنتشر الاتهامات حول ولاءات بعض أقسامها لدول مجاورة، بسبب مصالح مادية مباشرة أو تواطؤ بعضها مع قوى عسكرية في الخرطوم وبخاصة قوات التدخل السريع الخاضعة لسيطرة الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وهو الرجل الثاني في المؤسسة العسكرية بعد الجنرال برهان.
ولا تختلف مشكلات الشرق في السودان عن مشكلات الغرب (دارفور) او الوسط (كردفان والنيل الأزرق)، فهذه الأقاليم كلها تنتج الصادرات السودانية الرئيسية وهي المحاصيل الزراعية النقدية في الشرق، والثروة الحيوانية من دارفور والوسط، والنفط من الوسط والجنوب، ولكن عمالها منخفضي الأجور لا يستفيدون من هذه الثروات التي تسيطر الخرطوم على معظم عائداتها. ويسخر محلل سوداني من هذا الوضع الذي جعل الخرطوم والسلطة العسكرية المركزية مسؤولة عن استمرار نظام تتدفق فيه العائدات على العاصمة التي تفرض الضرائب والجبايات وتملك نخبتها المالية والأمنية والعسكرية معظم المشاريع الاقتصادية، بينما لا تقدم هي ذاتها أي مساهمة تُذكر في الاقتصاد الوطني “عدا قيامها في الفترة الأخيرة بتصدير الجنود لحساب دول خليجية من أجل القتال في اليمن”.
كان لدى مجلس السيادة برئاسة الجنرال البرهان وشريكه حمدوك ثلاثة أهداف رئيسية منذ تولي السلطة عام 2019 وهي الانتقال لحكم مدني كامل، وتوقيع اتفاقيات سلام مع الحركات المسلحة في دارفور والوسط والشرق، وإصلاح الاقتصاد. وأدى برنامج الإصلاح الاقتصادي إلى مزيد من الفقر والمعاناة، وحطم العسكريون آمال التحول المقرر لحكومة مدنية قريباً، بينما لم تنجح اتفاقيات السلام الهشة في تحقيق الاستقرار المرجو.
ولم يقم البرهان بانقلابه بسبب الاستعصاء السياسي وتضييق الخناق الاقتصادي فحسب، بل لأنه أيضاً كان من المقرر أن يسلم رئاسة مجلس السيادة الحاكم إلى المدنيين. واستلزم هذا التاريخ الوشيك لنقل السلطة على البرهان أن يتحرك بسرعة قبل أن يخسر مقعده الرئاسي ويصبح أكثر ضعفاً حيال الجنرال حميدتي المعروف بالدهاء السياسي والقسوة التي مكنته من التحول خلال سنوات معدودة من تاجر ابل في دارفور إلى رئيس أهم تشكيل عسكري خارج الجيش، وهو قوات الدعم السريع التي قامت بأعمال دموية واسعة النطاق في دارفور وغيرها.
وعلى رغم أن البرهان يتمتع ظاهرياً بدعم خليجي ومصري وروسي (رفض الروس تسمية ما حصل في السودان بأنه انقلاب وعرقلوا صدور بيان عن مجلس الأمن) إلا أن الشارع السوداني انتفض رافضاً أن يعود العسكر مرة أخرى لحكم البلاد منفردين بعدما تمكنوا عام 2019 من إزاحة الجنرال البشير عقب ثلاثين عاماً في السلطة. وخرج الآلاف إلى الشوارع في اليومين السابقين ولقي نحو عشرة متظاهرين ضد الانقلاب مصرعهم، وأُصيب العشرات بجروح في مواجهات مع قوات الأمن.
وبغض النظر عن مآلات ما قام به البرهان، وفرص نجاح المحتجين الضئيلة في إفشال مساعيه، يبدو ان السودان الذي صار دولة مستقلة عام 1956 مرشح أكثر للعودة إلى ظل العسكر وسيطرة نخبة حاكمة تستمد ثروتها وسلطتها من استمرار سيطرتها على المزارع التجارية والمناجم وحقول النفط وتترك الفتات الاقتصادي والهامش السياسي الضيق لاغلبية الأربعين مليون نسمة الذين يعيشون في السودان.
ظل السودان منذ استقلاله عام 1956، يخضع لهيمنة الخرطوم والقبائل النيلية التي تستغل كل مناطق البلاد الأخرى، ويتشبث المستفيدون من الوضع الراهن وبخاصة كبار قادة المؤسسات الأمنية وقسم كبير من زعماء الميليشيات المسلحة، بالترتيبات الاقتصادية التي تمنحهم ميزات شخصية وثروات وقدرة على الإغداق على اتباعهم وعشائرهم. وبسبب هذا الفشل السياسي والفساد الاقتصادي نشبت أول حرب انفصالية في جنوب السودان عام 1955 (قبل استقلال الدولة الفعلي ذاتها بعام) واستمرت أكثر من خمسين عاماً، حتى استقل الجنوب تماماً عام 2011، وفي الغرب فقد دارفور مئات الآلاف من سكانه في حرب أهلية دموية تواطأ فيها الجيش وقوات الأمن حتى تم التوصل إلى اتفاقيات سلام ضعيفة عام 2006. وما زالت هناك ميليشيات ومعارضة مدنية واسعة تابعة لحكم الخرطوم تنتشر في وسط البلاد وشرقها.
ويعود السودان هكذا إلى مواجهة التحدي الوجودي الذي لازمه منذ نشأته وهو كيفية الخروج من هذه الدائرة الجهنمية القائمة على الاستغلال الشنيع والعنيف لثروات الأقاليم الطرفية المهمشة، من أجل إثراء وتمويل نمط حياة نخبة صغيرة تسيطر على مفاصل الاقتصاد والأمن، ما يمكنها من ممارسة العنف ضد أي مقاومة بلا حسيب أو رقيب. هذه الدائرة الجهنمية جعلت مشاريع الديموقراطية المدنية تلوح على الساحة السياسية في السودان لمدة 14 سنة فقط مذ استقلت البلاد عام 1956، بينما سيطر الجنرالات والنخب على الحكم أكثر من 50 عاماً.
يبدو أن العسكر والنخب المؤيدة لهم عائدون مرة أخري لمواصلة هذا النمط من الحكم العنيف الظالم لأغلبية أهل السودان، وبخاصة الفقراء وسكان الأقاليم المهمشة، وهو نمط يبدو أنه يناسب مصالح النخب المسيطرة والدول المجاورة ويتناغم مع الاقتصاد العالمي الذي يتعايش من دون غضاضة مع الفوارق الهائلة المتزايدة بين أقليات مترفة وأغلبيات منسحقة، إذ لطالما تمت السيطرة الأمنية على هذه الاغلبيات ومنعها من إثارة “القلاقل” أو القفز في مراكب والابحار في مواسم هجرة متجددة نحو الشمال.
نشوة الأزهري
هو البؤس العربي!