المدونة

(نُشر في موقع درچ يوم ٢٨ مارس ٢٠٢١)

مؤلمة لمن لم تتبلد مشاعرهم بعد تلك الشرائط التي انتشرت على فيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى بعد اصطدام قطارين في صعيد مصر وسقوط مبنى من عشرة طوابق في القاهرة في غضون يومين. مؤلمة ولكنها ضرورية لنعرف ان الناس ليسوا أرقاماً وضحايا، بل بشر لديهم أسر وأصدقاء واحبّة، وأيضا بشر قادرون على الفعل كما رأينا في الشرائط التالية لعشرات المتبرعين بالدم في المستشفيات القريبة من حادث القطار الذي أودى بحياة 19 شخصاً وأصاب نحو مئتين بجروح بعضها بليغ.

في الشريط الأول والأكثر انتشاراً يصرخ ناج  من الحادث الذى ارتطم فيه قطار مسرع بآخر متوقف بالقرب من سوهاج: “شاركوا البث .. شاركوا البث”، قالها وهو يواصل التصوير الحي على حسابه على فيسبوك. وفي الشريط الثاني بعدها بأقل من 24 ساعة يظهر رجل مغبّر بملابسه الداخلية وخلفه العقار المنهار المؤلف من عشرة طوابق وهو يصرخ بلوعة “حرام عليكم” ويسعى للحصول على المساعدة من أجل ضحايا كانوا تحت الأنقاض بعد ساعات من انهيار العقار فجر يوم السبت. 

“شاركوا البث” هي نداء أخلاقي يتشبث بقيم العيش والإنسانية المشتركة في ضوء العجز عن ولوج مجال سياسي أوشك على الاختفاء بالكامل.

في شريط القطار يحكي شاب وجهه مترب وشعره مشعث، يبكي حيناً، وينتحب حينا آخر، تدور بنا عدسات تليفونه المهتز في يديه داخل أحد عربات القطار حيث الدم والأجساد البشرية وصرخات طلب النجدة، ثم بجوار الشريط الحديدي وقد وضع أهالي القرية المجاورة سلالم خشبية مترنحة على جانب عربات القطار المنقلبة وهم يحاولون استخراج الناجين كيفما استطاعوا. يصرخ الرجل: “الحقونا الناس معجونة في بعض .. شاركوا البث على جميع الصفحات … مش عارفين نطلع الناس … احنا رخاص قوي.”

تتكرر حوادث القطارات في مصر بأسباب متقاربة في العشرين عاماً الأخيرة منذ لقي قرابة 350 شخصاً مصرعهم في احتراق قطار في جنوب البلاد عام 2002، وحتى مصرع أكثر من عشرين شخصا في ارتطام قاطرة برصيف المحطة الرئيسية في قلب القاهرة في عام 2019. وتعود الأسباب المباشرة الى تدني فعالية نظم الصيانة والتحكم والرقابة والتشغيل. وتقول هيئة السكك الحديدية المصرية أن القطار الأول توقف بسبب استخدام مكابح الطوارئ ثم ارتطم به القطار الثاني من الخلف. ووعد الرئيس عبد الفتاح السيسي أن “ينال الجزاء الرادع كل من تسبب في هذا الحادث الأليم بإهمال أو بفساد أو بسواه، دون استثناء ولا تلكؤ ولا مماطلة.”

وربما تتوصل التحقيقات القضائية والفنية لتحديد مسؤوليات مباشرة لكنها من غير المتوقع أن تتناول الجوانب الأعمق والاهم والمتعلقة بالسياسات والانفاق ونظم الإدارة من اجل اصلاح حقيقي ومستدام لمشاكل السكك الحديدية في مصر. ويعاني هذا القطاع من عدة مشاكل ناجمة عن انخفاض الاستثمارات وسوء ترتيب الأولويات وضعف الاهتمام بتطوير وتحسين كفاءة الأنظمة بشرياً وتقنياً. 

وفقا للباحث أسامة دياب فانه من المتوقع أن ينخفض الإنفاق الاستثماري العام في مصر والذي يتضمن الإنفاق على تحسين البنية التحتية بما فيها مرفق السكك الحديدية إلى 2.4% من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2020-2021، بعد أن كان 4.4% في منذ خمس سنوات. وتقول المبادرة المصرية للحقوق الشخصية أن الإنفاق على السكك الحديدية انخفض حوالي 40٪ بين عامي 1990 و 2016 (أحدث البيانات المتاحة) مما أثر على جودة الخدمة.

وفي نفس الوقت تعتزم الدولة بناء خطوط قطارات سريعة تُقدر تكلفتها بمليارات الدولار لربط الضواحي الكبرى في القاهرة بما فيها العاصمة الإدارية وهي ليست مناطق التركز السكاني الحقيقية في البلاد. وتصل تكلفة خط العين السخنة الواقعة على البحر الأحمر والعلمين حيث تبنى الحكومة مدينة جديدة على شاطئ المتوسط إلى 125 مليار جنيه بما يعادل 8.2 مليار دولار تقريبا. وتعاقدت الحكومة المصرية الشهر الماضي مع شركة سيمنز الألمانية لتنفيذ أنظمة الإشارات والاتصالات والتحكم وتوريد وتركيب بوابات التذاكر الخاصة بهذا الخط بجانب توريد القطارات التي ستعمل بالمشروع.

المسألة اذن في عمقها تتعلق بأولويات النظام والنخبة الحاكمة وتفضيلاتها، وهي أولويات تنسجم في جانب كبير منها مع خيارات اقتصادية وسياسية بشأن الخدمات العامة في أنحاء العالم أدت إلى ازدياد الفوارق المادية والطبقية والفقر. وتبرز المنطقة العربية كواحدة من أكثر المناطق انعداما للمساواة بين الفئات الأفقر وتلك الاغنى، ناهيك عن الآثار البيئية السيئة التي تؤثر على الجميع بسبب استبدال شبكات النقل العام بشبكات نقل خاص او فردية.

ولكن مصر محرومة من جدل عام حقيقي وحوار بنّاء مع السيطرة شبه الكاملة للنخبة الحاكمة الضيقة والنظام السياسي القائم واجهزته الأمنية على كافة السلطات التشريعية والمؤسسات الإعلامية والنقابات والتجمعات المدنية.

أين يمكن ان يدور مثل هكذا حوار سوى على منصات التواصل الاجتماعية، رغم ما يشوبها أحيانا من تبادل الاتهامات الزاعقة وترويج نظريات المؤامرة وتبادل الشتائم.  تظل هذه المنصات في مثل تلك الحوادث المنفذ شبه الوحيد لاستكشاف توجهات الرأي العام بل وتساهم أحيانا في دفع النخبة الحاكمة لاتخاذ إجراءات في حوادث وقضايا بعينها كما حدث في بعض قضايا التحرش والانتهاك الجنسي مؤخراً، والتي كان يمكن لها أن تمر دون حساب لولا شريط فيديو وضعته مواطنة ساخطة على ما جرى.

ومن هنا يمكن فهم أهمية مشاركة البث وصرخة ذلك الشاب المكلوم. لم تكن الصرخة مجرد استنجاد من اجل البحث عن أصحابه الذين كانوا مسافرين معه في القطار فحسب، بل كانت أيضاً تعبير عن بقاء الأمل في التضامن والاهتمام العام من أجل تحسين الأوضاع. وبدون مثل هذا الأمل والعمل من أجل هذا التضامن والدعم المتبادل تنهار المجتمعات وتفقد تماسكها خاصة إذا كانت تعاني بالفعل من إخفاقات النخبة الحاكمة المعنية فقط بالضبط والربط والسيطرة والحفاظ على سياسات وكيان دولة تخدم فئات أقل وأقل من مواطنيها عاما بعد عام. “شاركوا البث” هي نداء أخلاقي يتشبث بقيم العيش والإنسانية المشتركة في ضوء العجز عن ولوج مجال سياسي أوشك على الاختفاء بالكامل، ومعه تتضاءل القدرة على وضع سياسات تخدم معظم الناس وعلى محاسبة المخطئين من رجال السياسة والمسؤولين.

كاتب، صحفي، مصري، بتاع حقوق انسان، وموظف اممي سابق، ومستشار في الاعلام والتجهيل والحفر والتنزيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *