المدونة

نُشر على موقع مدى مصر يوم ٢٤ مارس ٢٠٢٠. [كل الأرقام المستعملة في هذه القصة محدثة حتى صباح 22 مارس 2020]

في الأساطير والحكايات الكثيرة التي يدرسها الأطفال لتعلم الرياضيات، أتذكر من السبعينيات حكاية استعملتها في برنامج إذاعة الصباح المدرسية عن مخترع الشطرنج الذي أبهر ملكًا (هنديًا أو يونانيًا حسب الكتاب الذي تقرأه) باللعبة الاستراتيجية التي تصلح لتعليم جنرالات الجيش، فأنعم عليه الملك بلقب، وأمره أن يطلب ما يريد من مكافأة. طلب المخترع الحكيم الذي يحب الرياضيات أن يحصل على حبة قمح عن مربع الشطرنج الأول واثنتين عن الثاني وأربعة عن الثالث، وهكذا تتضاعف حبات القمح في كل مربع حتى نصل إلى المربع الأخير رقم 64. وكنت ساعتها أتوقف ثانيتين وأسأل الطلبة المتعبين من الوقوف طابورًا صباحيًا شبه عسكري بلا غرض ولا فائدة: «كام شوال ستكون جائزة المخترع؟» فأسمع إجابات تتردد من الساحة: واحد، عشرة، سيارة نقل محملة، ده مخترع عبيط لماذا لم يطلب مليون دولار؟ وهكذا.

الملك أيضًا في الحكاية كان مستاءً من سخافة الطلب فطرد المخترع وطلب من وزيره أن يعطيه أجولة القمح المستحقة كجائزة. وفي المساء تذكره فقال لوزيره: كم جوالًا أعطيتم المخترع؟ تنحنح الوزير المضطرب وقال: لم نستطيع يا سيدي لأن العالم كله ليس فيه كل هذا القمح. 

أي طالب رياضيات كان سيجنب الملك هذه الورطة لأن مضاعفة عدد حبات القمح 63 مرة بعد مربع الشطرنج الأول يعني أن يكون هناك تريليونات التريليونات من حبات القمح أو نحو تريليوني طن (التريليون يعني مليون مليون). هذه معادلة أُسْيّة (أو متوالية هندسية) بسيطة للغاية.

لم يكن تبسيط العلم أكثر أهمية مما هو الحال الآن مع موجة ذعر أو ترقب تلف العالم بسبب ظهور نوع جديد من فيروسات عائلة كورونا التي تضرب الجهاز التنفسي في أواخر نوفمبر في الصين. ومنذ ذلك الوقت قتل فيروس كورونا المستجد أكثر من 13 ألف و500 شخص بحلول أول يوم في ربيع 2020. وهكذا في أقل من أربعة أشهر انتشر الفيروس من عشرات الإصابات حتى ضرب قرابة 315 ألف شخص في متوالية هندسية معدل تضاعفها أقل من معدل جائزة مخترع الشطرنج بكثير، ولكنها ما زالت مدمرة في ضوء عدم وجود علاج محتمل لأشهر طويلة. وتراوحت نسبة الوفيات من بين الحالات التي تم تشخيصها لنسب وصلت في حالة إيطاليا إلى تسعة في المائة تقريبًا (خمسة آلاف تقريبًا ماتوا من نحو 53 ألف حالة جرى تشخيصها).

وبات حلم رجال السياسة والصحة العامة في أنحاء العالم هو تحاشي الانتشار أو تبطيط المنحنى، بمعنى تخفيض معدل المتوالية الهندسية أو عكسها.

ما هو هذا المنحنى؟ وماذا نعني بتبطيطه أو تسطيحه؟ وهل يمكن هذا عن طريق العزل الجماعي أو حظر التجول أم أن مناعة القطيع كفيلة بتحقيق هذا؟ أي قطيع نتحدث عنه وأي عزل؟ وما هي الاحتمالات والسيناريوهات المقبلة في أسوأ كارثة صحية كونية يواجهها العالم ربما منذ سلف قديم لهذا الفيروس عندما ضربت الانفلونزا العالم منذ مائة عام فأصابت 500 مليون شخص، مات منهم قرابة خمسين مليون؟

حكاية المنحنى

أي منحنى بسيط على رسم بياني يمثل العلاقة بين عاملين يتغير أحدهما فيتغير الثاني. مثلًا، يمر الوقت وترتفع حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد، فنرسم منحنى يوضح هذه العلاقة في منطقة معينة أو بلد معين، وليكن مثلًا الصين أو كوريا الجنوبية أو إيطاليا. وهكذا نصل إلى منحنى بياني للعلاقة بين مرور الزمن من ناحية، وتزايد أو تناقص عدد الحالات من ناحية أخرى. المنحنيات الزمنية لا تفصح عن العوامل المتسببة في معدلات انتشار الفيروس من قبيل الرعاية الصحية، السلوك الاجتماعي، العادات الثقافية المهيمنة المؤثرة على الاختلاط والنظافة الشخصية، طريقة العدوى، طفرات الفيروس البيولوجية، الخ. وظيفة المنحنى الرئيسية هي فهم كيفية السيطرة عليه أو منعه من التزايد السريع عن طريق التحكم في بعض العوامل الممكن تغييرها مثل طريقة الاختلاط أو النظافة الشخصية أو تعاطي أدوية معينة. 

في الصين، المنشأ المعروف للجائحة الحالية، وقعت أول حالة وفاة بسبب فيروس كورونا المستجد في 11 يناير، وكان عدد الحالات المصابة آنذاك عدة مئات، ولكن خلال عشرة أسابيع وصل عدد القتلى إلى 3261 شخصًا والمصابين إلى أكثر من 81 ألف شخص. وفي الولايات المتحدة زادت الحالات المكتشفة من خمسة آلاف إلى قرابة عشرة آلاف في يومين فقط (من الثلاثاء إلى الخميس 19 مارس) ثم تضاعفت ثلاث مرات لتصل إلى قرابة 30 ألف حالة مشخصة بعد ثلاثة أيام (الأحد 22 مارس) بينما كانت الحالات المشخصة 100 حالة فقط في أول مارس. 

هذا التضاعف في تلك البلدان يمكن أن يكون أحد أسبابه هو انتشار القدرة على إجراء الفحص، ولكن هذا لا ينفي العدد الحقيقي لحالات الإصابة في أي بلد بما فيها مصر، التي سجلت نحو 327 حالة حتى مطلع الأسبوع. وسيكون العدد الحقيقي في أي من هذه البلدان -على الأرجح- أكثر بكثير من الحالات المسجلة المُشخصة في ضوء أن الأعراض لا تظهر على كل المصابين، وأن اختبارات فحص الإصابة تُجري على عدد محدود من السكان. 

المنحنيات التي ظهرت من البلدان التي قامت بجمع المعلومات كلها منحنيات هندسية يرتفع فيها انتشار المرض بشكل درامي حتى يصل إلى قمة العدوى ثم يبدأ الانخفاض في ما بعد -ربما بصورة أبطء- حتى نحصل على شكل الجرس، وإن لم يحدث هذا سوى في الصين حتى الآن. إسراع في صعود منحدر جبلي حتى نصل إلى قمة هضبة ثم نبدأ الهبوط من ناحية أخرى، يمكن التفكير في الأمر هكذا. ومن هنا أتت فكرة تسطيح المنحنى أو تبطيطه (بالعامية المصرية).

ودون أي تدخل وإجراءات وقائية، يمكن لهذا المنحنى أن يرتفع بسرعة أكبر، ووفقًا لعلماء أوبئة من دارسي أنماط انتشار الأمراض والعارفين بالأوضاع الصحية العامة والتجهيزات العلاجية في الصين، فإنه لو لم تكن بكين قد طبقت إجراءات عزل صارمة، تعاون أو رضخ لها الشعب، كان يمكن أن يصل عدد المصابين إلى نحو مليار شخص خلال حوالي ثمانين يومًا. 

وتأتي أهمية تسطيح المنحنى من القدرة المحدودة لأي نظام صحي على التعامل مع حالات تستدعي عناية مركزة والخوف من وصوله إلى مرحلة يتعين عليه فيها أن يتوقف النظام الصحي عن استقبال حالات مرضى ينهار جهازهم التنفسي بسبب مضاعفات الفيروس فيموتون على أبواب مستشفيات لا يمكنها مساعدتهم. ويعني هذا أن الغرض من تسطيح المنحنى ليس إيقاف إصابة ملايين الأشخاص بل أن تقع إصابة هؤلاء الملايين بمعدلات تلائم قدرة المؤسسات الصحية على علاج المحتاجين لتدخل عاجل منهم، وتحديدًا من أجل إجراء التنفس الصناعي، حيث إن الأثر الرئيسي للفيروس يكون على الجهاز التنفسي. هناك فقط طريقان لإيقاف الفيروس والقضاء عليه لاحقًا، وهما إما لقاح مُجرب وفعال قادر على إيقاف الانتشار أو حصانة تتأتى من الإصابة، وهما أمران لم يتحققا حتى الآن. 

المنحنيات الهندسية عبارة عن تمثيل للمعلومات التي تم جمعها في بلد معين ومكان معين في فترة زمنية معينة مما يعني أنها قد ترتفع فجأة بسبب جودة أنظمة الاختبار وتوفر عدد ضخم من اختبارات الفحص لتأكيد وجود الفيروس (أجهزة تفاعل البوليميراز المتسلسل أو PCR Kits) وذلك على سبيل المثال في كوريا الجنوبية، وبالتالي تسجيل حالات إصابة أكثر في وقت أقل بينما لا ترتفع عدد الحالات المشخصة بنفس القدر (المطلق أو النسبي) في بلد آخر ليست به ما يكفي من أجهزة الاختبار (مصر أو سويسرا أو حتى الولايات المتحدة مثلًا). ولهذا نقول إن معدلات الإصابة المنشورة أقل عادة من معدلات الانتشار الحقيقية لأننا لا نقوم بفحص كل السكان أو كل المشكوك في إصابتهم.

وهكذا تتباين معدلات الزيادة في العدوى بالفيروس والمنشورة على صفحات منظمة الصحة العالمية من بلد إلى آخر لأن عدد أجهزة الاختبار وتوفره يختلف من بلد لآخر، كما تتفاوت أيضًا ظروف العدوى والأوضاع الصحية العامة لسكان كل بلد وسلوكهم الاجتماعي، إلخ. ولذا فإن بيانات انتشار عدوى فيروس كورونا لا يمكن نقلها من مكان إلى آخر بسهولة. فمثلًا، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية تُوفي شخص واحد فقط في إسرائيل من بين نحو 900 حالة مسجلة، بينما تُوفي عشرة في مصر من بين أقل من 300 حالة مسجلة، ولا يعني هذا إن الفيروس في مصر أشد فتكًا، بل أن الاوضاع الصحية العامة للمواطنين وسبل الرعاية أسوأ في مصر في الأغلب أو أن عدد المصابين في مصر أكثر بكثير، وبالتالي فربما كانت النسبة المئوية متقاربة في البلدين وليست شاسعة الفرق هكذا.

بناء نماذج الأوبئة وتحديد سياسات الصحة العامة

تعكس معدلات انتشار الفيروس في أي بلد الأوضاع الصحية السابقة للسكان وسلوكهم الشخصي والجماعي بعد ظهور الوباء، ولا سيما إذا لم يكن له علاج أو لقاح معروف. ولذا تبني وزارات الصحة نماذج رياضية قائمة على بيانات فعلية من أجل توقع معدلات الانتشار. وتشمل هذه البيانات الحالة الصحية الفعلية للسكان وخاصة نسبة كبار السن ومعدل انتشار الأمراض المزمنة التي تجعل البشر أقل مناعة أمام فيروس تنفسي (أمراض القلب والسكر والضغط)، والسلوك الاجتماعي للاختلاط بما يشمل كثافة السكان ووسائل التنقل والتلامس وممارسات التدخين وتناول الطعام، وأخيرًا النماذج السابقة لانتشار أوبئة مشابهة مثل سارس SARS أو ميرز MERS، وهما من نفس عائلة كورونا. وفي غياب نموذج معروف في مصر لتوقعات انتشار فيروس كورونا المستجد (اسمه العلمي سارس كورونا2 SARS-CoV2) قد يكون من المفيد النظر بحذر شديد إلى نماذج وضعتها دول مشابهة اجتماعيًا واقتصاديًا لمصر من أجل الاستهداء بها.

ولكن لماذا نحتاج هكذا نموذج؟ ما هي فائدة معرفة معدلات الانتشار وفق ظروف كل دولة وسلوك سكانها؟

الفائدة ببساطة هي أن تحديد مدى اتساع وحدة سياسات العزل والإجراءات الاحتياطية الأخرى يجري بناءً على هذا النموذج من أجل الوصول إلى تقليل معدلات الانتشار للحد الذي يمكن معه لمؤسسات الرعاية الصحية تقديم الخدمات اللازمة للحالات المرضية القصوى دون أن تضطر لترك المرضى المصابين باختناقات تنفسية ليموتوا أمام مستشفيات عاجزة عن استقبالهم. والفشل في وضع هكذا نموذج يمكن أن يؤدي إلى انهيار وعجز أقسام العناية المركزة عن استقبال المحتاجين، وهذا ما حدث في إيطاليا التي مات فيها قرابة 800 شخص في يوم واحد في مطلع هذا الأسبوع.

وفي نفس الوقت تساعد النماذج على عدم الإيغال في الإجراءات الاحتياطية وصولًا لحظر التجول الشامل مثلًا (كما حدث في الأردن في مطلع الأسبوع) لأن هكذا إجراءات لها ثمن اقتصادي واجتماعي باهظ إذا استمرت فترة معينة، وخاصة على الفئات الأفقر والأضعف من السكان. 

التخطيط في وزارات الصحة العامة، سواءٌ في بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا، يبدأ ببساطة من النهاية إلى البداية.

أولًا تحديد عدد أسرة العناية المركزة والتنفس الصناعي المتوفرة في البلد، ودعونا نفترض أنها عشرة آلاف جهاز تنفس صناعي. وعلى أساس النماذج التي تحدثنا عنها ومعادلات رياضية يطورها متخصصون في الصحة العامة وانتشار الأوبئة بمساعدة خبراء في البرمجة والإحصاء يتم توقع نسبة مئوية لعدد من يحتاجون رعاية فائقة بين المصابين بفيروس كورونا (مثلًا كبار السن والمصابين بأمراض قلب أو سكر أو سرطان أو إيدز سيحتاجون في الأغلب لرعاية فائقة وأجهزة تنفس صناعية). وبناء على هذه النسبة المئوية، ولتكن 10%، فنحن إذن لا نريد لهؤلاء الـ10% أن يكونوا أكثر من عشرة آلاف شخص في أقصى تقدير، حتى يمكن لنا علاجهم جميعًا، وبالتالي لا يمكن لنا السماح لأكثر من 100 ألف شخص أن يُصابوا بالفيروس (على أساس أن 10% منهم سيحتاجون أن يدخلوا غرف عناية مركزة) في نفس الوقت أو خلال المدة اللازمة لتعافي من دخلوا أقسام العناية المركزة والمعتمدين على خراطيم التنفس الصناعي الداخلة لحلوقهم للاستمرار على قيد الحياة. أي إصابات فوق هؤلاء المائة ألف سيموت منها واحد من كل عشرة مصابين جدد في الأغلب لأنه سيحتاج عناية طبية لا يمكن توفيرها.

وهكذا، يساعدنا النموذج الرياضي على تقديم توصيات علمية مدروسة لصاحب القرار السياسي كي يوائم بدوره (وببرود) بين عدد الضحايا المقبول والخسارة الاقتصادية الناجمة عن الإجراءات الاحتياطية (وأيضًا عدد الأسرّة وأجهزة التنفس الصناعي الإضافية التي يمكن توفيرها). 

وبدون هكذا نموذج رياضي ومعرفة جيدة بالإمكانيات الصحية للبلاد وأنماط الأمراض والحالة الصحية للسكان، ستكون كل القرارات السياسية خبط عشواء وتخمين غير قائم على علم مثلما رأينا في مصر بشأن الصلاة في المساجد والكنائس هذا الأسبوع.

الوضع في مصر

لا توجد في مصر سياسة واضحة لإجراءات الصحة العامة لتقليل معدلات انتشار فيروس كورونا المستجد بسبب غياب نموذج واضح لتوقعات الانتشار، أو ربما هناك نموذج لا نعرفه ولكنه يتطلب إجراءات غير ممكنة سياسيًا أو مدمرة اقتصاديًا من وجهة نظر صناع السياسات.

ووفقًا لمصادر طبية فإن وزارة الصحة المصرية تفترض أن 10% من المصابين سيحتاجون إلى رعاية صحية فائقة، وتفيد مصادر طبية أخرى أن عدد أسرة العناية المركزة يتراوح بين ثمانية وعشرة آلاف سرير، بينما يتراوح عدد أجهزة التنفس الصناعي بين ثلاثة وستة آلاف جهاز، وبافتراض وجود الأطقم الطبية من أطباء وممرضين/ات قادرين على التعامل مع هذه الحالات واستعمال الأرقام الأعلى من أجهزة التنفس الصناعي، فلن تكون هناك قدرة على معالجة سوى ستة آلاف حالة. ويعني هذا أن مصر تحتاج ألا يزيد عدد الإصابات في البلاد عن 60 ألف إصابة نشطة في أي وقت، وكل ما يزيد عن هذا معرض لاحتمالات وفاة عالية للغاية. ورغم أن عدد حالات الإصابة المُشخصة في مصر لم تزد عن 300 حالة حتى الآن فإنها يمكن أن ترتفع بسرعة كما حدث في دول عدة في أنحاء العالم. ففي أمريكا، الأفضل صحيًا من حيث حالة السكان والتجهيزات العلاجية، ارتفع عدد المصابين المُشخصين من 100 حالة في أول مارس إلى 30 ألف حالة في مطلع الأسبوع الجاري. ويوجد في أمريكا ما لا يتعدى 170 ألف جهاز تنفس صناعي.

ومن غير المعروف كيف حددت وزارة الصحة نسبة الـ10% المحتاجة إلى رعاية صحية فائقة، حيث أنها تفتقر في الأغلب إلى القدرات التقنية لبناء مثل هذه النماذج الرياضية، وليس لديها أجهزة الحاسب والتقنيات المطلوبة والمعلومات الكاملة التي تحتاج إلى فريق من الباحثين وبيانات تفصيلية من الجهاز المركزي للإحصاء، علمًا بأن آخر إحصاء للبيانات الديمغرافية والصحية المصرية نُشر في عام 2014 وجُمعت بياناته قبلها. 

ويتخوف أطباء من أن يكون السيناريو الأسوأ في مصر هو انتشار متسارع تعجز معه المؤسسات الصحية عن مساعدة كل المحتاجين لتنفس صناعي، وذلك بالتوازي مع إجراءات عزل اجتماعي وإبطاء للنشاط الاقتصادي وخاصة للمعتمدين على الأجور غير الثابتة في القطاع غير الرسمي وانهيار في القطاعات الخدمية، وخاصة السياحة، مما سيكون له مجتمعيًا آثارًا خطيرة اقتصادية واجتماعية. وكان الأحرى بمصر، وفقًا لمتخصص في الأوبئة، أن تضحي بنهاية موسم السياحة في شهر فبراير وتقوم بحظر التجمعات العامة وإبطاء ثم إيقاف السفر عبر الحدود منذ عدة أسابيع، ولكن يبدو أن الاهتمام بعائدات الموسم تغلبت على مخاوف انتشار محتمل للوباء.

ويتخوف أطباء ممارسون للعمل في أقسام العناية المركزة من الانخفاض الشديد في عدد الأطباء والممرضين/ات المتخصصين وعدم كفاية المخزون من الملابس الواقية والأقنعة الطبية الواقية واختبارات الفحص الفيروسية. وفي حالة الارتفاع في الحالات المصابة في مصر إلى عشرات الآلاف سيعني هذا تكرار ما حدث في دول مثل سويسرا وفرنسا، حيث تم إيقاف كل العمليات الجراحية غير العاجلة أو التي يمكن أن يموت مرضاها دون تدخل، ثم مواجهة نسب وفيات تصل إلى 9% من المصابين المُشخصين في إيطاليا (النسبة المناظرة في مصر هي 3.4%)

ولا يتعلق الأمر بدول متقدمة وأخرى «متخلفة»، حيث شكا طبيب يعمل في جنيف من التأخير في قرارات إغلاق الحدود وتقييد التنقل في سويسرا بسبب الخوف من غياب 30% من مقدمي الرعاية الصحية الذين يعيشون عبر الحدود ويأتون يوميًا من بلدان مجاورة للعمل في مقاطعات مثل جنيف وبازل ولوزان، كما أن المدارس لم تُغلق سوى متأخرًا وقبل مصر، مثلًا، بيوم واحد، رغم أن عدد الحالات المُشخصة في سويسرا 30 ضعف عددها في مصر. 

ولا يوجد في سويسرا، التي يناهز عدد سكانها تسعة ملايين نسمة، أكثر من ألفي جهاز تنفس صناعي أو جهاز لكل خمسة آلاف شخص تقريبًا (والنسبة مقاربة في فرنسا المجاورة، حيث يوجد جهاز لكل ستة آلاف نسمة، بينما في مصر هناك في المتوسط جهاز لكل 23 ألف مصري). وجهاز التنفس الصناعي ventilator لا غنى عنه لمريض فيروس كورونا المستجد الذي صارت حالته حرجه لأن الفيروس يهاجم الجهاز التنفسي بشراسة ويصبح المريض غير قادر على التنفس دون خرطوم الجهاز الموصل بالقصبة الهوائية، ويتكلف الجهاز من 25 إلى 50 ألف دولار في الولايات المتحدة، ولكن سعره أقل في أوروبا والصين، بيد أن المصانع كلها تحت ضغط شديد، وليس لدى كل الدول القدرة على شرائه من موازنات الصحة القائمة.

مرجيحة الفيروس

هل يجب أن نفرح بإعلان الصين أنها تمكنت من تسطيح أو تبطيط منحنى العدوى، وأنها لم تسجل حالات جديدة من داخل البلاد في مطلع الأسبوع، وهكذا بدأت في السماح لأهل مقاطعة ووهان بالخروج تدريجيًا بعد أن كانت مركز الفيروس في العالم؟

نعم، فقد نجحت الصين في حصار فيروس كورونا المستجد. ولا. لأن هناك جولة قادمة لا شك في غياب أي لقاح. وذلك لأنه بدون تأكد كامل أن الفيروس اختفى وقضينا عليه ولن ينتقل للبشر أو بينهم مرة أخرى سيظل الخطر قائمًا. وستكون هناك موجة قادمة، بل وأكثر شراسة، كما يرى فريق متخصصين من امبريال كوليدج في بريطانيا، وهكذا يصعد المنحنى مرة أخرى فنصبح مثل راكبي الأرجوحة/المرجيحة نهبط لكي نصعد مرة أخرى.

وفائدة التأرجح مع الفيروس مع تسطيح المنحنى دوريًا هو السماح لمؤسسات الرعاية الصحية بمعالجة كل الحالات المحتاجة، فمثلًا يعتقد اتحاد المستشفيات الأمريكية أن نحو مليون شخص سيحتاجون لاستعمال جهاز تنفس صناعي بسبب الفيروس وحتى يتم تصنيع لقاح، ومع وجود 170 ألف جهاز تنفس صناعي فقط في الولايات المتحدة، يجب ألا يمرض كل هؤلاء الأشخاص دفعة واحدة بل على دفعات متأرجحة لا يزيد فيها أبدا عدد الحالات المحتاجة إلى عناية مركزة عن عدد أجهزة التنفس الصناعي (بافتراض أنه سيتم تخصيصها كلها لحالات كورونا).

وهكذا، قد تستمر البشرية في محاورة ومناورة مع هذا الفيروس الشرس مع خسائر اقتصادية واجتماعية متتالية قد تجبرنا في بعض الاحتمالات على تغيير نمط عيشنا والنظام الاقتصادي العالمي لكي يشمل، مثلًا، حدًا أدنى من الدخل يسمح للناس بالعيش دون عمل في فترات الطوارئ.

ولا نتحدث هنا عن المليارين الذين يعيشون تحت خط الفقر أو دون مدخرات في العالم (ومنهم اكثر من ٣٣ مليون في مصر مثلا) بل أيضا عن الذين يعيشون شهرا بشهر رغم وظائفهم الجيدة. وعلى سبيل المثال تبين أن 40% من الأمريكيين لا تزيد مدخراتهم عن 400 دولار للفرد، مما يعني أن توقفهم عن العمل أسبوعًا واحدًا سيضطرهم للاستدانة أو الإفلاس والجوع دون برامج مساعدات ضخمة

سيناريوهات مصير كورونا

سيناريو الموجات المتلاحقة: وفيه تؤدي موجات العزل الاجتماعي وتقييد الحركة إلى إيقاف انتشار الفيروس. ثم تبدأ عودة الحركة تدريجيًا كما يحدث حاليًا في الصين لأسباب اقتصادية واجتماعية، ويبدأ الناس في العودة إلى حياتهم الطبيعية. ولأنه لا توجد أي ضمانة أن الفيروس اختفى من أنحاء العالم فسيعود للانتشار مرة أخرى ثم يتصاعد بمتوالية هندسية ونصل لموجة أخرى، وهكذا حتى نصل للقاح يقي الناس فعلًا. والميزة في هذا السيناريو هو تخفيف الضربات، فبدلًا من زلزال مدمر يقتل مئات الملايين نحصل على هزات متلاحقة تقتل مئات الآلاف حتى نطور اللقاح أو تحدث طفرات حميدة. 

سيناريو عظيم غير متوقع قبل ربيع ٢٠٢١: وهو أن يتم تصنيع لقاح يقي من فيروس سارس-كوف22، على أن يتم تصنيع وتوزيع اللقاح وتطعيم مليارات الأشخاص في شتى انحاء العالم كي يتوقف انتشار المرض، وساعتها سيكون قد مات ربما عدة ملايين. سيعتمد عدد الموتى على معدلات انتشار الفيروس، التي ستعتمد بدورها على إجراءات العزل الاجتماعي ومنع الاختلاط والتي لها آثار مدمرة على الاقتصاد والمجتمع بدون شك. وفي تاريخ اللقاحات يحتاج الأمر من 12 إلى 18 شهرًا لتصنيع اللقاح، ولكننا الآن في ظروف استثنائية، وربما ظهر اللقاح للاستعمال العام قبل نهاية 2020.

سيناريو أسوأ الاحتمالات: أن نطبق إجراءات عزل اجتماعي خفيفة للغاية ونترك معظم الناس يلتقطون الفيروس مع عزل كبار السن والمرضى، ولكن هذا يفترض مسبقًا أن الإصابة بالفيروس وعدم الوفاة بسببه تعني أن الفرد صارت لديه حصانة ولن يُصاب بالفيروس مرة أخرى وهذه فرضية لم تثبت بعد. وحتى لو ثبتت هذه الفرضية فسيعني هذا تحمل وفاة ملايين عديدة من الأشخاص (بداية بالأفقر والأعجز عن الوصول إلى مساعدة طبية) حتى نصل إلى ما صار يعرف بمناعة القطيع. وفكرت بريطانيا في اتباع هذا السيناريو ولكنها تراجعت.

سيناريو الصدفة والطفرات: وفيه يحدث تدخل طبيعي أو إلهي يتحور فيه الفيروس إلى شكل أقل شراسة، ويضعف انتشاره أو يضعف أثره المدمر على الجهاز التنفسي ويخف وجوده ويختفي، وذلك بالتوازي مع تمكن الجسد البشري المصاب الناجي من توليد حصانة لعدة سنوات. 

وهكذا، فإن الثمن الذي ستدفعه البشرية في مواجهة هذا الوباء العالمي pandemic، وكم من ملايين قد يموتون أو عشرات الملايين قد تُدمر حيواتهم اقتصاديًا واجتماعيًا، سيعتمد بشكل أساسي على مدى سرعة وكفاءة المؤسسات العلمية وحصافة القرارات السياسية ولطف العناية الإلهية، أو الطفرات الطبيعية غير المتوقعة للفيروس، حسبما يؤمن الواحد منا.

كاتب، صحفي، مصري، بتاع حقوق انسان، وموظف اممي سابق، ومستشار في الاعلام والتجهيل والحفر والتنزيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *