المدونة

نُشرت في موقع درج يوم ١٠ سبتمبر ٢٠١٩

تراجع الطيار عن مواصلة طريقه رغم أن محركات الطائرة زمجرت وهي تتسارع لتدخل ممر الإقلاع بعد أن تلقى إنذاراً بوجود عطل في أجهزة الملاحة. وهكذا عادت الطائرة إلى قرب مباني مطار ميامي الدولي، وطلب الطيار American Airlines الحذر أطقم الصيانة الميكانيكية التابعة لشركة امريكان ايرلاينز

 حتى ذلك الوقت، في صباح 17 تموز/يوليو الماضي، تحقق هدف ميكانيكي الطائرات عبد المجيد معروف أحمد العاني،( 60 عاماً)، كما أدعى في التحقيقات التي جرت نهاية الأسبوع الماضي. بات على الرجل القادم من كاليفورنيا ورفاقه أن يجدوا سبب عطل هذا الجهاز وبعدها يقدمون مطالبات معتادة للحصول على مئات الدولارات مقابل ساعات عمل إضافي. 

وفي نفس التحقيقات القضائية اعتراف الميكانيكي الغاضب بعد مواجهته بشرائط كاميرات مراقبة الفيديو في المطار، بأنه تلاعب بوحدة بيانات تحت قمرة القيادة. كان العاني يعرف أن هذا العطل سيؤثر على الطائرة وسيتأخر إقلاعها وسيضطرون لاستدعائه لإصلاحها، وبالتالي يحصل على دخل إضافي يحتاجه! وهذا ما حدث بالفعل.

لماذا فعل العاني هذا؟ هل الرجل، العراقي الأصل ومسلم الاسم، إرهابي عضو في خلية نائمة كما ألمحت بعض كتابات يمينية في الولايات المتحدة؟ أم مجرد عامل يائس وغاضب من فشل المفاوضات حول زيادة الأجور وتحسين ظروف العمل بين عمال الشركة والإدارة؟ أم أن سلوكه في النهاية لا يفسره سوى عدة أسباب متداخلة تستعصي على التلخيص والاختزال واللافتات الجاهزة؟

نفى العاني أي نية للإضرار بالطائرة طراز بوينج 737-800 وكان على متنها 150 شخصاً. وقال للمحققين أن كل هدفه من التلاعب في جهاز الملاحة كان الحصول على ساعات إضافية لتحقيق مزيد من الدخل. واعترف العاني أنه وضع قطعة من الاسفنج في مجرى دخول الهواء لوحدة البيانات ولصقها بصمغ شديد الفاعلية، مما عطل عمل الوحدة المسؤولة عن تتبع السرعة والاتجاه وبيانات أخرى حيوية. وأظهرت شرائط فيديو المطار كيف قاد العاني سيارته نحو الطائرة، ثم خرج منها وأمضى سبع دقائق في منطقة أجهزة الملاحة الواقعة تحت مقدمة الطائرة. وتعرف زملاء العاني عليه في الشرائط بسبب عرج خفيف في ساقه. 

صار سخيفاً ومضراً بنا جميعا وبضحايا العنف في عالمنا اختزال واختصار قصص معقدة ومركبة حول بشر تدفعهم مجتمعاتهم و امالهم واحلامهم وأطماعهم ومخاوفهم، وربما أيضاً قراءاتهم في الدين وفهمهم للنصوص الى ارتكاب أفعال معينة.

لم يفعل ميكانيكي اخر في شركة امريكان ايرلاينز ما فعله العاني، ولكن 31 ألف من عمال الشركة يتفاوضون دون جدوى مع أرباب عملهم من أجل تطبيق عقد عمل جديد ورواتب اعلى، منذ كانون الثاني ديسمبر 2015. ولجأ العمال المحبطون، في مواجهة الإدارة الساعية دائماً إلى خفض النفقات، إلى التباطؤ في العمل منذ نيسان/ابريل للضغط على الإدارة، ما أدى إلى تأخير 650 رحلة وتعطل أكثر من 1500 عملية صيانة. وردت الإدارة برفع قضية، كسبتها لاحقاً، ضد العمال واصفة ما يفعلوه بأنه سلوك غير قانوني للضغط أثناء التفاوض. وتعثرت المفاوضات قبل هذا بسبب إصرار النقابة على تعديل العقود وضمان الرعاية الصحية وتفادي فصل آلاف العمال بينما تسعى الإدارة لنقل بعض عمليات الصيانة الدورية إلى خارج الولايات المتحدة، حيث الأجور أقل ويفتقر العمال إلى حماية نقابية تزعج الإدارة عادة.

صورة تناقلتها وسائل الاعلام للعاني

امريكان ايرلاينز هي أكبر شركة طيران في العالم وحصلت على أرباح تقارب 400 مليون دولار في الربع الأخير من العام الماضي، ومثلها مثل شركات الطيران فإنها تحقق أرباحاً سنوية طيبة، وإن كانت تواجه منافسة حادة ورغبة لا تتوقف من المساهمين في الحصول على أرباح أعلى لأسهمهم. ويتوقع اتحاد النقل الجوي الدولي IATA أن تحقق شركات الطيران ربحاً صافياً يتجاوز 28 مليار دولار في عام 2019 مقابل 30 مليار في عام 2018 (أو حوالى 7.4٪ من رأسمالها). وربما بسبب حادث العاني تراجعت امريكان ايرلاينز وقبلت العودة اعتباراً من منتصف أيلول/سبتمبر للتفاوض مع نقابات العمال حول الأجور وظروف العمل.

حتى هنا يمكن تصور قصة العاني بوصفه عاملاً غاضباً قرر اللجوء الى فعل عنيف عرض حياة بشر آخرين للخطر. ولكن في عالم اليمين المسيحي والطائفية والعداء المتزايد للمهاجرين، في هذا العالم موازي جرى تفسير قصة العاني من منطلق مختلف تماماً. 

فالرجل الذي يعمل في امريكان ايرلاينز منذ عام 1988، ليس بالدرجة الأولى عاملاً يواجه صعوبات الحياة في مجتمع يُقيّم فيه الفرد بمستوى دخله وقدرته على الاستهلاك، وليس موظفاً يخشى على تأمينه الصحي في بلد يمكن أن تموت فيه إن لم يكن معك نفقات العلاج، وليس حتى كهل يخشى من اقتراب سنوات الشيخوخة والتقاعد وليس لديه – وفقاً لبيانات المحاكمة – سوى أصول تقدر بأقل من ستة آلاف دولار.

و لا لكل هذه المنطلقات. فالرجل – كما يدلنا أسمه – مسلم ويمكن أن يكون إرهابياً! ونشر موقع “مراقبة الجهاد” المسيحي اليميني تقريراً قصيراً ربط بين ما فعله العاني بكونه مسلماً وسخر من شركة امريكان ايرلاينز قائلا أنها “تؤيد الجهاد” ولن تفصل العاني من عمله! 

ونال هذا التقرير 45 تعليقا من متابعي الموقع ومنهم  تعليق من داستي أفاد انه يجب “حظر مثل هذه الوظائف على المسلمين.” وتلاه تعليق أخرى من رجل يقول ان اسمه مورتيمر أكد ان المسلمين “يتظاهرون … بالاعتدال بينما يعدون لعملية جهادية.” 

وانتقل الحوار إلى وسائل تواصل اجتماعي بالانجليزية والعربية وخاض فيه اشخاص يفضلون التفكير في انفسهم او الاخرين كهويات خالصة لا تتبدل وتعبر في النهاية عن اديان أو ثقافات لا تتحول. 

وكتب مجدي خليل مدير منتدى الشرق الاوسط للحريات على صفحته في فيسبوك والتي يتابعها نحو ثمانين ألف شخص: “المتطرفون المسلمون يتفننون فى التخريب … عبد المجيد معروف أحمد الميكانيكى فى مطار ميامى قام باللعب بأجهزة الطائرة من آجل إسقاطها وعليها ١٥٠ راكب …ولولا يقظة الطيار واكتشافه ذلك فور إقلاعها لحدثت كارثة. المشكلة الأساسية فى من اختاره ليعمل فى هذه المنطقة الحساسة!!!!” الطائرة في الحقيقة لم تقلع ويقول خبير طيران أن ما فعله العاني لم يكن ليؤدي لحادث للطائرة لان هناك عدة أجهزة متوازية تقوم بقياس السرعة والرياح وعدة نظم انذار في حالة وجود أي عطل فيها وهو ما نبّه الطيار الذي قرر عدم الإقلاع.

وعلق  تامر أمين تحت هذا البوست قائلا ان هؤلاء المتطرفين المسلمين “قنابل موقوتة.” 

يمكن تصور قصة العاني بوصفه عاملاً غاضباً قرر اللجوء الى فعل عنيف عرض حياة بشر آخرين للخطر. ولكن في عالم اليمين المسيحي والطائفية والعداء المتزايد للمهاجرين، في هذا العالم موازي جرى تفسير قصة العاني من منطلق مختلف تماماً. 

لا يمكن بالطبع استبعاد أي ميول إسلامية جهادية كامنة داخل قلب العاني ولكن وكيل النيابة الذي وجه الاتهامات في محكمة اتحادية في فلوريدا لم يتهم الميكانيكي الاحمق بالإرهاب ولم يشر الى ديانته أو الى مسقط رأسه في العراق (والرجل عاش في العراق أقل مما عاش في الولايات المتحدة على أي حال).

ولا يمكن حتى الآن استبعاد أن يكون العاني، الذي يحمل الجنسية الامريكية منذ نحو 30 سنة، شخصاً متديناً او متأثراً بجوانب ثقافية معينة من عراق السبعينيات والثمانينيات أو أنه شخص فوضوي أو عنصري، ولكن الدافع الأقوى والاوضح حتى الآن أنه واحد من ملايين الأمريكيين الغاضبين الذين لا يبالون بحياة الآخرين عندما يخرجون بنادقهم او مسدساتهم ويطلقون النار عشوائياً، وأن عدداً ليس بالقليل منهم يفعلون هذا تحت ضغوط العمل والاحتياجات المادية، أو العداء المتزايد للمختلفين (مهاجرين أو اتباع ديانة أخرى أو عرق آخر) وتحميلهم مسؤولية المعاناة التي يرزحون تحتها. العاني ليس بالأساس ميكانيكياً ماهراً قادر على الحصول على وظائف أفضل في سوق شديد التنافسية، بل انه فُصل من عمله من قبل في شركة الاسكا للطيران بسبب إهماله في اجراء اعمال صيانة وصلت لوضع بطارية خطأ في طائرة. 

صار سخيفاً ومضراً بنا جميعا وبضحايا العنف في عالمنا اختزال واختصار قصص معقدة ومركبة حول بشر تدفعهم مجتمعاتهم و امالهم واحلامهم وأطماعهم ومخاوفهم، وربما أيضاً قراءاتهم في الدين وفهمهم للنصوص الى ارتكاب أفعال معينة. وصار من المضر تقديم جينات وأصول عرقية لأفراد بعينهم بصفتها دوافع جرمية.

واجه العاني يوم الجمعة الماضي اتهامات النائب العام في محكمة اتحادية في ولاية فلوريدا بأنه سعي “لإتلاف طائرة او تحطيمها أو تعطيلها”. ولو أُدين في المحاكمة التي ستبدأ في العشرين من سبتمبر أيلول فقد ينتهي الرجل في السجن لمدة عشرين سنة. لا شك أنه يستحق العقاب لو ثبت جرمه ولكن ماذا تعلمنا نحن؟ ماذا تعلمت إدارة شركة امريكان ايرلاينز؟ ماذا تعلم المهووسون باختزال دوافع السلوك في طائفة أو هوية الشخص (سواء كان هؤلاء معلقين أمريكين أو عرباً أو أمريكيين من أصل عربي الخ.)؟ 

ربما يصبح فهمنا لمثل هذه التصرفات أفضل عندما ندرك أننا جميعا بشكل ما، كشركات وحكومات ومؤسسات ومجتمعات وأفراد نتحمل أجزاء مختلفة من المسؤولية عما وصل إليه وفعله العاني. علينا أن نكف عن التخلص من هذه المسؤولية وتحميلها لجانب واحد فقط، سواء كان المعاناة الاقتصادية او الثقافة والهوية أو غيرها. نحن في الأغلب نفضل هذه الطريقة لأنها تجعلنا، نحن الباقين، مجرد مشاهدين وضحايا ندافع عن انفسنا ضد عمال جشعين أو مسلمين إرهابيين أو .. أو … ممن لا يستحقون الحياة او على الأقل لا يجب ان يعيشوا معنا!

كاتب، صحفي، مصري، بتاع حقوق انسان، وموظف اممي سابق، ومستشار في الاعلام والتجهيل والحفر والتنزيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *