نُشر في درج يوم ١٣ فبراير ٢٠٢٠
لا ثمن واضحاً سيتقاضاه السودان اقتصادياً من أجل التطبيع الذي بدأ مع إسرائيل، إنما هناك في الأغلب ثمن سياسي يهم الجنرالات أكثر مما يهم البلاد.
لا ثمن واضحاً سيتقاضاه السودان اقتصادياً من أجل التطبيع الذي بدأ مع إسرائيل، إنما هناك في الأغلب ثمن سياسي يهم الجنرالات أكثر مما يهم البلاد. ووفقاً لتسريبات، قامت الإمارات والسعودية بدور وساطة لعب فيه مستشار سوداني في الخارجية السعودية يدعى طه عثمان الحسين، دوراً رئيسياً لعقد اجتماع بين رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، في عنتيبي، أوغندا. ويُعتقد أن عثمان الحسين زار إسرائيل بصحبة مسؤول استخباراتي إماراتي للتخطيط للقاء البرهان ونتانياهو منذ أشهر. وأقنع طه الرجل الثاني في مجلس السيادة الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) رئيس قوات الدعم السريع “بأهمية اللقاء لتبييض صفحتي حميدتي والبرهان في الملفات الأميركية، وملفات محكمة الجنايات الدولية، بخاصة أنهما في قائمة متهمي جرائم دارفور”. يعتبر بعض محللي السودان أن البرهان نفسه مدرج على قائمة غير معلنة لمجرمي الحرب في دارفور، وهي قائمة يمكن بسهولة أيضاً أن تضم نائبه حميدتي، الضالع أيضاً في توريد قوات مرتزقة لبلدان، منها اليمن وليبيا.
والتطبيع مع إسرائيل يمكن أن يكون ثمنه تعهدات سرية أميركية بعدم ملاحقة الرجلين اللذين يعرفان أن هذه الملاحقة ربما لا تنتهي أبداً، فالجنرال السابق البشير الذي يواجه لائحة اتهام من المحكمة الجنائية الدولية منذ عام 2009، لا بد أنه يرتعش الآن في مكان احتجازه في الخرطوم، بعدما قال عضو في مجلس السيادة الحاكم في السودان هذا الأسبوع إن تسليم البشير ومتهمين آخرين للمحاكمة في لاهاي سيكون من شروط اتفاق السلام قيد البحث في دارفور.
ولن يكون البرهان أول سياسي أو عسكري سوداني يطلب عون إسرائيل. وتعود هذه العلاقة السرية معظم الوقت إلى ما قبل استقلال السودان عندما كان “حزب الأمة” يخشى من تراجع الزعيم المصري عبد الناصر عن قبول استقلال السودان، فحاول نيل الدعم البريطاني، من طريق إسرائيل. وقابل مسؤولون من الحزب ديبلوماسيين إسرائيليين في لندن عام 1954، سعياً إلى توسطها مع البريطانيين، لضمان استقلال السودان. واستمر التواصل لأسباب مختلفة حتى انقطع بعد انقلاب عسكري في السودان عام 1958. وبعد ذلك بـ25 عاماً، تواطأ الرئيس السابق الجنرال جعفر النميري في عملية نقل يهود الفلاشا الإثيوبيين إلى إسرائيل عبر السودان، بعدما التقى سراً مع وزير الدفاع الإسرائيلي آرييل شارون في نيروبي عام 1981. وتقول مصادر إسرائيلية إن النميري تلقى رشوة تقدر بثلاثين مليون دولار، حصل رئيس جهاز الأمن السوداني عمر أبو طالب على جزء منها عام 1984، لتنفيذ بقية عملية نقل الفلاشا.
وتمر 25 سنة أخرى، قبل أن تتقاطع طرق السودان وإسرائيل مرة أخرى.
كنت في الخرطوم عام 2009، عندما شنت مقاتلات إسرائيلية غارات على قوافل شاحنات تسير بجوار البحر الأحمر، وقال وزير الدفاع عبد الرحيم حسين ومن دون أن تختلج له عضلة في وجهه في اليوم التالي، إن الغارات الجوية الإسرائيلية على أهداف داخل السودان وقعت من دون أن ترصدها أجهزة الرادار، لأنها حصلت في الليل، عندما يتوقف عمل الرادارات. كانت الغارات رداً إسرائيلياً على تواطؤ حكومة السودان والسماح بنقل أسلحة إيرانية عبر البحر الأحمر ومصر إلى “حماس” في قطاع غزة. وتحدث ديبلوماسيون غربيون في الخرطوم آنذاك عن شاحنات بطبقتين، في مستواها العلوي يجلس بشر يتم تهريبهم وفي السفلي أسلحة مخزنة. تعبر الشاحنات الحدود مع مصر وتصل إلى سيناء وفي وسط سيناء تنقسم، فيتوجه البشر جنوباً للعبور إلى إسرائيل بينما تتجه الأسلحة شمالاً نحو غزة.
ووفقاً للجزولي فما يريده البرهان هو “توريد السلاح الأميركي والتدريب الأميركي والوصل الاستخباري الأميركي على سابقة نميري. وذلك لأن أوباما أزال العقوبات المصرفية والتجارية على السودان ولم يتبق هناك سوى منع العون المباشر عسكرياً أو مدنياً”.
لن يكون البرهان أول سياسي أو عسكري سوداني يطلب عون إسرائيل.
وسواء كان الدافع رغبات غير واقعية لإنعاش اقتصاد دخل في غيبوبة أو رغبات ضيقة لحماية جنرالات من الملاحقة والحصول على دعم مادي وتسليح من واشنطن، فإن البرهان على عكس سابقيه كان عليه أن يدفع ثمناً مقدماً، وهو الإعلان عن اتصالاته مع إسرائيل، كي تكسب الدولة الصهيونية مساحة أخرى في معركة التطبيع. ولما تأخر في الإعلان سبقه نتانياهو نفسه وأعلن عن وقوع الاجتماع على “تويتر”.
ولم تخرج الخرطوم في تظاهرات عارمة ورافضة.
وقال سودانيون تحدثت معهم في الأيام القليلة الماضية إن القضية الفلسطينية بالمعنى القديم فقدت الكثير من مكانتها كأداة للحشد وكاهتمام أصيل لدى شعب يتآكل لأسباب عدة دعمه القضايا المستندة إلى ايديولوجيات قومية عربية أو إسلاموية. وكما تقول مزن النيل وولاء صلاح: “رد الفعل الشعبي السوداني وبالتحديد موقف المجموعات التي ساندت التطبيع -على غرابته للمراقب الخارجي- منطقي جداً لتاريخ استخدام القضية الفلسطينية في العملية السياسية السودانية وسياقه، فعلى مدار 30 عاماً من حكم نظام الإنقاذ، كانت مسيرات “نصرة فلسطين” الخيار الأمثل للإسلاميين لجمع قاعدتهم الجماهيرية وشحذها حول خطاب فلسطين كقضية “إسلامية وعربية”.
وترددت شعارات حول السودان الذي يجب أن يأتي أولاً (سمعناها من قبل في “مصر أولا” و”الأردن أولاً”)، ولكن رنينها في بلد لاقى من العنصرية والاستعلاء العربي الكثير كان أكثر وقعاً. يقول عثمان محمد حسن تعليقاً على منتقدي البرهان: لم تُجمِع هذه الأصوات على إدانة علاقات السعودية والإمارات وقطر وسلطنة عمان والبحرين بهذه الحدة. والخبراء الإسرائيليون، من فنيين وأمنيين، يسرحون ويمرحون في تلك الدول منذ سنوات… والأردن ومصر في تطبيع رسميٍّ مع إسرائيل”.
السودان هو آخر الواصلين إلى هذا الطابور من التطبيع مع إسرائيل ولكن دوافعه وأغراضه لا تختلف كثيراً عن نظرائه العرب والتي تتلخص في:
- إسرائيل بوابة إلى واشنطن، زعيمة العالم اقتصادياً وعسكرياً والتي نحتاج إلى ودها، أو على الأقل تلافي غضبها (يخص هذا السبب مصر وإسرائيل والأردن بشكل أساسي ثم الخليج العربي إلى حد ما).
- إسرائيل حليف مفيد في الصراع ضد عدونا المشترك، إيران (هذا يخص الخليج العربي أكثر).
- هناك تعاون أمني واقتصادي مفيد بداية من أجهزة التصنت مروراً بصفقات الغاز مع مصر والأردن، نهاية بالممارسات الأمنية المشتركة (ويخص هذا الدول التي لها حدود مع إسرائيل والسلطة الفلسطينية أيضاً).
- يمكن أن نستفيد تكنولوجياً من إسرائيل وخصوصاً في تقنيات تحلية المياه والري والزراعة والبرمجيات.
يحتاج السودان الكثير من إسرائيل، أو يتوقع الكثير مما لا يحتمل أن تقدمه إسرائيل، ولو كان عدد قليل من السودانيين القوميين والإسلاميين واليساريين يدعون إلى عدم المصالحة جرياً على أبيات معروفة للشاعر المصري الكبير أمل دنقل، فإن أقلية ضخمة تحور القصيدة قليلاً وتقول: “لا تصالح إلا لو منحوك الذهب”، ولكن المعضلة أن الذهب قد يكون مجرد وعد لا يتحقق أو سراب، وأن مشكلات السودان الاقتصادية في الحقيقة أعمق بكثير من أن تحلها أطنان من سبائك الذهب.
لا تحتاج إسرائيل السودان ولا العرب حقاً من النواحي الاقتصادية ولكنها تحتاج إلى شرعية وقبول في المنطقة.
ومن ناحيتها، لا تحتاج إسرائيل السودان ولا العرب حقاً من النواحي الاقتصادية ولكنها تحتاج إلى شرعية وقبول في المنطقة، ما سيحل لها مشكلات أمنية وسياسية، ويسمح لها بالاستمرار في سياسات فريدة في العالم كله، للسجن والقمع والتحكم المطلق في مصير 7 ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة وداخل إسرائيل. ربما الفائدة السياسية الأخرى هي أن يستعيد السودان آلاف طالبي اللجوء السودانيين المقيمين في إسرائيل، وكثر منهم من دارفور وهو أمر يسبب صداعاً للحكومة الإسرائيلية وسيساعد نتانياهو في الانتخابات المقرر عقدها في آذار/ مارس.
سيد
شكرا علي الجمال! اتمني ان حضرتك تكتب شيء عن تجربتك في السودان كما كتبت عن أفغانستان.
خالد منصور
اتمنى ان يسعفني الوقت والهمة
Alsayed
صحة وعافية ا خالد
ماجد عبد المنعم
تحياتى لحضرتك